الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ} (4)

قوله تعالى : " والليل إذا يسر " وهذا قسم خامس . وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص ، أقسم بالليل على العموم . ومعنى " يسري " أي يسرى فيه ، كما يقال : ليل نائم ، ونهار صائم . قال :

لقد لُمْتِنَا يا أمَّ غَيْلاَنَ في السُّرَى *** ونِمتِ وما ليلُ المَطَيِّ{[16032]} بنائمِ

ومنه قوله تعالى : " بل مكر الليل والنهار{[16033]} " [ سبأ : 33 ] . وهذا قول أكثر أهل المعاني ، وهو قول القتبي والأخفش . وقال أكثر المفسرين : معنى " يسري " : سار فذهب . وقال قتادة وأبو العالية : جاء وأقبل . وروي عن إبراهيم : " والليل إذا يسر " قال : إذا استوى . وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله : " والليل " : هي ليلة المزدلفة خاصة ؛ لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة اللّه . وقيل : ليلة القدر ؛ لسراية الرحمة فيها ، واختصاصها بزيادة الثواب فيها . وقيل : إنه أراد عموم الليل كله . قلت : وهو الأظهر ، كما تقدم . واللّه أعلم . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب " يسري " بإثبات الياء في الحالين ، على الأصل ؛ لأنها ليست بمجزومة ، فثبتت فيها الياء . وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل ، وبحذفها في الوقف ، وروي عن الكسائي . قال أبو عبيد : كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل ، وبحذفها في الوقف ، اتباعا للمصحف . ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا ؛ لأنه رأس آية ، وهي قراءة أهل الشام والكوفة ، واختيار أبي عبيد ، اتباعا للخط ؛ لأنها وقعت في المصحف بغير ياء . قال الخليل : تسقط الياء منها اتفاقا لرؤوس الآي . قال الفراء : قد تحذف العرب الياء ، وتكتفي بكسر ما قبلها . وأنشد بعضهم :

كَفَّاكَ كَفٌّ ما تَلِيقُ دِرْهَمًا *** جُودا وأخرى تعطِ بالسيف الدَّما{[16034]}

يقال : فلان ما يليق درهما من جوده ، أي ما يمسكه ، ولا يلصق به . وقال المؤرج : سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من " يسر " فقال : لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة ، فبت على باب داره سنة ؛ فقال : الليل لا يَسْرِي وإنما يَسْرَى فيه ، فهو مصروف ، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : " وما كانت أمك بغيا{[16035]} " [ مريم : 28 ] ، لم يقل بغية ، لأنه صرفها عن باغية . الزمخشري : وياء " يسري " تحذف في الدرج ، اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة . وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم ، والجواب محذوف ، وهو ليعذبن ، يدل عليه قوله تعالى : " ألم تر كيف فعل ربك " إلى قوله تعالى " فصب عليهم ربك سوط عذاب " [ الفجر :13 ] . وقال ابن الأنباري هو " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر :14 ] .


[16032]:هذا البيت من قصيدة لجرير يرد بها على الفرزدق.
[16033]:آية 33 سورة سبأ.
[16034]:البيت في (اللسان: لبق) غير منسوب لقائله. وفي تفسير الطبري (طبعة الحلبي 12/116).
[16035]:آية 28 سورة مريم.