فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ} (4)

{ والليل إذا يسر } قرأ الجمهور يسر بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف ، وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الموقف وإثباتها في الوصل ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها فيهما ، قال الخليل تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي ، قال الزجاج والحذف أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياآت ، قال الفراء قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها .

قال المؤرج سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من { يسري } فقال لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة فبت على باب داره سنة فقال الليل لا يسري وإنما يسري فيه فهو مصروف عن جهته وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ، ألا ترى إلى قوله { وما كانت أمك بغيا } ولم يقل بغية لأنه صرفها عن باغية .

وفي كلام الأخفش هذا نظر فإن صرف الشيء عن معناه بسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه ، ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، والأصل هنا إثبات الياء لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ولم تحذف لعلة من العلل إلا لإتباع رسم المصحف وموافقة رؤوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي .

ومعنى { والليل إذا يسر } إذا يمضي كقوله { والليل إذ أدبر } ، { والليل إذا عسعس } وقيل معنى يسر يسار فيه كما يقال ليل نائم ونهار صائم وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني ، وعلى هذا نسبة السري إلى الليل مجاز والمراد يسري فيه فهو مجاز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان ، والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ، وبالأول قال جمهور المفسرين .

وقال قتادة وأبو العالية { والليل إذا يسر } أي جاء وأقبل ، وقال النخعي أي استوى ، قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه ، وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب ، والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى .

قال ابن عباس { إذا يسر } إذ ذهب ، ويسر مأخوذ من السري وهو خاص بسير الليل ، يقال سريت الليل وسريت به ، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيها لها بالأجسام مجازا ، واتساعا نحو طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط .

وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت ، وقطع كفه فسرى إلى ساعده أي تعدى أثر الجرح ، وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية . وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء ، وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم .

قال الفارابي سرى فيه السم والخمر ونحوهما ، وقال السرقسطي سرى عرق السوء من الإنسان ، وقال ابن القطاع سرى عليه الهم أتاه ليلا ، وسرى همه ذهب .