الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِرَمَ ذَاتِ ٱلۡعِمَادِ} (7)

قوله تعالى : " ألم تر كيف فعل ربك " أي مالكك وخالقك . " بعاد " قراءة العامة " بعادٍ " منونا . وقرأ الحسن وأبو العالية " بعاد إرم " مضافا . فمن لم يضف جعل " إرم " اسمه ، ولم يصرفه ؛ لأنه جعل عادا اسم أبيهم ، وإرم اسم القبيلة ، وجعله بدلا منه ، أو عطف بيان . ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم ، أو اسم بلدتهم . وتقديره : بعاد أهل إرم . كقوله : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] ولم تنصرف - قبيلة كانت أو أرضا - للتعريف والتأنيث . وقراءة العامة " إرم " بكسر الهمزة . وعن الحسن أيضا " بعادَ إرَمَ " مفتوحتين ، وقرئ " بعاد إِرْمَ " بسكون الراء ، على التخفيف . كما قرئ " بورِقكم " . وقرئ " بعادٍ إرَمَ ذات العماد " بإضافة " إرم " - إلى - " ذات العماد " . والإرم : العلم . أي بعاد أهل ذات العلم . وقرئ " بعادٍ إرَمَ ذات العماد " أي جعل اللّه ذات العماد رميما . وقرأ مجاهد والضحاك وقتادة " أَرَمَ " بفتح الهمزة . قال مجاهد : من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام ، التي هي الأعلام ، واحدها : أرم . وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر . أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد . وهذه الرؤية رؤية القلب ، والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد عام . وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورا ؛ إذ كانوا في بلاد العرب ، وحِجر ثمود موجود اليوم . وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب ، واستفاضت به الأخبار ، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب . وقد تقدم هذا المعنى في سورة " البروج " {[16036]} وغيرها " بعاد " أي بقوم عاد . فروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة ، ولو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه ، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها .

و " إرم " قيل هو سام بن نوح . قاله ابن إسحاق . وروى عطاء عن ابن عباس - وحكى عن ابن إسحاق أيضا - قال : عاد بن إرم . فإرم على هذا أبو عاد ، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح . وعلى القول الأول : هو اسم جد عاد . قال ابن إسحاق : كان سام بن نوح له أولاد ، إرم بن سام ، وأرفخشذ بن سام . فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة . وقال مجاهد : " إرم " أمة من الأمم . وعنه أيضا : أن معنى إرم : القديمة ، ورواه ابن أبي نجيح . وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية{[16037]} . وقال قتادة : هي قبيلة من عاد . وقيل : هما عادان . فالأولى هي إرم . قال اللّه عز وجل : " وأنه أهلك عادا الأولى{[16038]} " [ النجم : 50 ] . فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح : عاد . كما يقال لبني هاشم : هاشم . ثم قيل للأولين منهم : عاد الأولى ، وإرم : تسمية لهم باسم جدهم . ولمن بعدهم : عاد الأخيرة . قال ابن الرقيات :

مَجْداً تليداً بناه أوَّلُهُمْ *** أدرك عاداً وقبلَه إِرَمَا

وقال معمر : " إرم " : إليه مجمع عاد وثمود . وكان يقال : عاد إرم ، وعاد ثمود . وكانت القبائل تنتسب إلى إرم .

" ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد " قال ابن عباس في رواية عطاء : كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع ، والقصير منهم طول ثلثمائة ذراع بذراع نفسه . وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا . ابن العربي : وهو باطل ؛ لأن في الصحيح : [ إن اللّه خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء ، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن ] . وزعم قتادة : أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا . قال أبو عبيدة : " ذات العماد " ذات الطول . يقال : رجل معمد إذا كان طويلا . ونحوه عن ابن عباس ومجاهد . وعن قتادة أيضا : كانوا عمادا لقومهم . يقال : فلان عميد القوم وعمودهم : أي سيدهم . وعنه أيضا : قيل لهم ذلك ، لأنهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع ، وكانوا أهل خيام وأعمدة ، ينتجعون الغيوث ، ويطلبون الكلأ ، ثم يرجعون إلى منازلهم . وقيل : " ذات العماد " أي ذات الأبنية المرفوعة على العمد . وكانوا ينصبون الأعمدة ، فيبنون عليها القصور . قال ابن زيد : " ذات العماد " يعني إحكام البنيان بالعمد . وفي الصحاح : والعماد : الأبنية الرفيعة ، تذكر وتؤنث . قال عمرو بن كلثوم :

ونحن إذا عِمَادُ الحَيِّ خَرَّتْ *** على الأَحْفَاضِ نمنعُ من يَلِينَا

والواحدة عمادة . وفلان طويل العماد : إذا كان منزل معلما لزائره . والأحفاض : جمع حفض - بالتحريك - وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل ، أي خرت على المتاع . ويروى : عن الأحفاض أي خرت عن الإبل التي تحمل خرثي{[4]} البيت . وقال الضحاك : " ذات العماد " ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، دليله قوله تعالى : " وقالوا من أشد منا قوة{[5]} " [ فصلت : 15 ] . وروى عوف عن خالد الربعي " إرم ذات العماد " قال : هي دمشق . وهو قول عكرمة وسعيد المقبري . رواه ابن وهب وأشهب عن مالك . وقال محمد بن كعب القرظي : هي الإسكندرية .


[16036]:راجع جـ 19 ص 295.
[16037]:في بعض النسخ: "القرية".
[16038]:آية 50 سورة النجم.

[4]:آية 92 سورة الحج
[5]:آية 98 سورة النحل