في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

17

ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلباً ذاكراً وصوتاً رخيماً ، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه . وبلغ من قوة استغراقه في الذكر ، ومن حسن حظه في الترتيل ، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون . وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها ، وتمجيدها له وعبادتها . فإذا الجبال تسبح معه ، وإذا الطير مجموعة عليه ، تسبح معه لمولاها ومولاه :

( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب ) . .

ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ . . الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق ، حينما يخلو إلى ربه ، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره . والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده . . لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ إذ يخالف مألوفهم ، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان ، وجنس الطير ، وجنس الجبال !

ولكن فيم الدهش ? وفيم العجب ? إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة . وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات . . حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارىء الوجود كله : أحيائه وأشيائه جميعاً . وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء ، فإن تلك الحواجز تنزاح ؛ وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم . فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة !

وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية ؛ وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحاً لله . وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان ، مع النبوة والاستخلاص .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

قوله : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } سخر الله الجبال مُسبِّحة مع داود عند إشراق الشمس وفي آخر النهار ، فكان داود إذا ذكر الله ذكرت معه الجبال . وكان عليه الصلاة والسلام يفقه تسبيح الجبال . ويستدل من قوله : { بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } على صلاة الضحى ؛ فقد روي عن ابن عباس قوله : لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن . على أن صلاة الضحى نافلة مستحبة وأقلها ركعتان . وقيل : واحدة ، وهي تؤدى في الغداة عند ابيضاض الشمس عقب طلوعها وإشراق نورها . وفي صحيح مسلم : عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الأوابين حي ترمَض الفصال " والفصال والفصلان جمع فصيل ، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل . والرمضاء شدة الحرِّ في الأرض .

وفضل صلاة الضحى عظيم وأجرها كبير . وفي ذلك روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حافظ على شَفْعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر " .