في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءا بالنهي مختوما بالتهديد مرة أخرى :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره . عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . .

إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدا . فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمدا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلا تجزى ء فيها نعجة أو عنزة . والأيل تجزى ء فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزى ء فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالها يجزى ء فيه أرنب ، وما لا مقابل له من البهيمة يجزى ء عنه ما يوازي قيمته . .

ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديا حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين ؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد [ خلاف فقهي ] . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدرا ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن ؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .

وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :

( ليذوق وبال أمره ) . .

ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدا كبيرا : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :

( عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) .

فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

استئناف لبيان آية : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } [ المائدة : 94 ] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكماً لم يبق به عمل . وتقدّم القول في معنى { وأنتم حرم } في طالع هذه السورة [ المائدة : 1 ] .

واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين : حال كون الصائد محرِماً ، وحال كون الصيد من صيد الحرم ، ولو كان الصائد حلالاً ؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى ، فكانت بيت الله وحماه ، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه . قال النابغة :

والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ يمسحُها *** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد

فالتحريم لصيد حيوان البرّ ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر . ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة ، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة . وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان ، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم ، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم .

والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه . ويلحق بالصيد الوحوش كلّها . قال ابن الفرس : والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ ، كما يقال : بئس الرميَّة الأرنب ، وإن لم ترم بعد . وخصّ من عمومه ما هو مضرّ ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير . ودليل التخصيص السنّة . وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام ، وهذا مورد الآية ، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد ، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد . ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم .

وقوله : { وأنْتم حُرُم } حُرُم جمع حرام ، بمعنى مْحرم ، مثل جمع قذال على قذل ، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة . ويطلق المحرم على الكائن في الحرم . قال الراعي :

قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرماً

أي كائناً في حرم المدينة . فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم ، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة . وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده . فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق . وفي صيده الجزاء . وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه ، ومثله الطائف عند الشافعي .

وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام ، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب . وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر ( جبل ) إلى ثور " قيل : هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة . قال النووي : أكثر الرواة في كتاب « البخاري » ذكروا عيَراً ، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال : من عير إلى كذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ . وقيل : إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني . وقيل : ثور جبل صغير وراء جبل أحُد .

وقوله : { ومن قتله منكم } الخ ، ( مَن ) اسم شرط مبتدأ ، و { قتله } فعل الشرط ، و { منكم } صفة لاسم الشرط ، أي من الذين آمنوا . وفائدة إيراد قوله { منكم } أعرض عن بيانها المفسّرون . والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية ، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه ، كما تقدّم آنفاً .

وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد ، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء ، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل .

وقوله { متعمّداً } قيد أخرج المخطىء ، أي في صيده . ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة . قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطىء أنّهما يكفّران . ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة . وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وجمهور فقهاء الأمصار : إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء ، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم ، أي قاسه على الغُرم . والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما . ومضى بذلك عمل الصحابة .

وقال أحمد بن حنبل ، وابن عبد الحكم من المالكية ، وداوود الظاهري ، وابن جبير وطاووس ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء ، ومجاهد : لا شيء على الناسي . وروي مثله عن ابن عباس .

وقال مجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وابن جريج : إن كان متعمّداً للقتل ناسياً إحرامه فهو مورد الآية ، فعليه الجزاء . وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه ، وصيده جيفة لا يؤكل .

والجزاء العوض عن عمل ، فسمّى الله ذلك جزاء ، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار .

وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه . وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام ، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء . وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده .

وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه { ليذوق وبال أمره } . وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء ، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى : { جزاءاً وفاقاً } [ النبأ : 26 ] .

وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد ، وذلك المثل من النعم ، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير ، وأكثر صيد العرب من الدوابّ ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز ، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده ، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض ، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها ، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة . وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة ؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة ، والإوز يقارب السخلة ، وهكذا . وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة . وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد . والقيمة عند مالك طعام . وقال أبو حنيفة : دارهم . فإذا كان المصير إلى القيمة ؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به ، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً ، ولكسر المدّ يوماً كاملاً . وقال أبو حنيفة : يشتري بالقيمة هدياً إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاماً ، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً .

وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزىء في الضحايا والهدايا . فقال مالك : لا يجزىء أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال : { هدياً بالغ الكعبة } . فما لا يجزىء أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء ، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام .

وقال مالك في « الموطأ » : وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره . وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة . وقال الشافعي وبعض علماء المدينة : إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في « الموطأ » عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة . قال الحفيد ابن رشد في كتاب « بداية المجتهد » : وذلك ما روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود اهـ .

وأقول : لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } . فإنّ ذلك من دلالة الإشارة ، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة ، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام ، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزىء في الهدايا . فمن العجب قول ابن العربي : إنّ قول الشافعي هو الصحيح ، وهو اختيار علمائنا . ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا . والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام . ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها ، خلافاً لداوود الظاهري ، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع ، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله .

وقرأ جمهور القرّاء { فجزاء مثل ما قتل } بإضافة { جزاء } إلى { مثل } ؛ فيكون { جزاء } مصدراً بدلاً عن الفعل ، ويكون { مثلُ ما قتل } فاعل المصدر أضيف إليه مصدره . و { من النعم } بيان المثل لا ل { مَا قتَلَ } . والتقدير : فمثل ما قتل من النعم يجزىء جزاء ما قتله ، أي يكافىء ويعوّض ما قتله . وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي . ولك أن تجعل الإضافة بيانية ، أي فجزاء هو مثل ما قتل ، والإضافة تكون لأدنى ملابسة . ونظيره قوله تعالى : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] . وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] ، أي فليحرّر رقبة . وجعله صاحب « الكشاف » من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي فليجز مثلَ ما قتلَ . وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل ( جزى ) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه . تقول : جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهماً ، ولا تقول : جزيْت كذا درهماً بما أتلفته ، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ ( مثل ) مقحماً . ونظّروه بقولهم : « مثلك لا يبخل » ، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري . وسكت صاحب « الكشاف » عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام « الكشاف » على لزوم جعل لفظ { مثل } مقحماً وأنّ الكلام على وجه الكناية ، يعني نظير { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وكذلك ألزمه إياه التفتزاني ، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل . وهو اعتذار ضعيف .

فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله . وقد اجترأ الطبري فقال : أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي .

وقرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي ، وخلف { فجزاءٌ مثلُ } بتنوين ( جزاء ) . ورفع ( مثل ) على تقدير : فالجزاء هو مثلُ ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول ، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد .

وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } جملة في موضع الصفة ل { جواء } أو استئناف بياني ، أي يحكم بالجزاء ، أي بتعيينه . والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين . وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما . ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام ، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره .

وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم مع كعب بن مالك ، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان . ووُصف { ذوا عدل } بقوله : { منكم } أي من المسلمين ، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء .

وقوله : { هدياً بالغ الكعبة } حال من { مثل ما قتل } ، أو من الضمير في ( به ) . والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة . والمنحر : منى والمروة . ولما سمّاه الله تعالى { هدياً } فله سائر أحكام الهدي المعروفة . ومعنى { بالغ الكعبة } أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة ، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة .

وقوله : { أو كفّارة طعام مساكين } عطف على { فجزاء } وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء ، إذ الجزاء هو العوض ، وهو مأخوذ فيه المماثلة . وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة . وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين . فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين ، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد ، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين . وهو قول الأكثر من العلماء . وعن ابن عباس : تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً . وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد . قال مالك : أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام ، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين . ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام . فعن ابن عباس : تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين ، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً ، وحمار الوحش بثلاثين ، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين .

و { أو } في قوله { أو كفارة طعام مساكين } وقوله : { أو عدل ذلك } تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة . وكذلك كل أمر وقع ب« أو » في القرآن فهو من الواجب المخيّر . والقول بالتخيير هو قول الجمهور ، ثم قيل : الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين . وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير ، وقيل : الخيار للحكمين . وقال به الثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن . ومن العلماء من قال : إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء ، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام ، فهي عندهم على الترتيب . ونسب لابن عباس .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { كفّارةُ } بالرفع بدون تنوين مضافاً إلى طعام كما قرأ { جزاءُ مثلِ ما قتلَ } . والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى : { فجزاء مثلِ ما قتل } فنجعل { كفارة } اسم مصدر عوضاً عن الفعل وأضيف إلى فاعله ، أي يكفّره طعامُ مساكين ؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية ، أي كفّارة من طعام ، كما يقال : ثوبُ خزّ ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان ، فالكفّارة بيّنها الطعام ، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع . وجزم بهذا الوجه في « الكشاف » ، وفيه تكلَّف . وقرأه الباقون بتنوين { كفارةٌ } ورفع { طعامُ } على أنّه بدل من { كفارة } .

وقوله { أو عدْل ذلك صياماً } عطف على { كفّارة } والإشارة إلى الطعام . والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه . وأصل معنى العدل المساواة . وقال الراغب : إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا . وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات ، وقيل : هما مترادفان . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى { طعام مساكين } . وانتصب { صياماً } على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير .

وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام ، وهو موكول إلى حكم الحكمين . وقال مالك والشافعي : يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً . وقال أبو حنيفة : عن كلّ مُدَّين يوماً ، واختلفوا في أقصى ما يصام ؛ فقال مالك والجمهور : لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين ، وقال بعض أهل العلم : لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات . وعن ابن عباس : يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة .

وقوله { ليذوق } متعلّق بقوله { فجزاء } ، واللاّم للتعليل ، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره .

والذوق مستعار للإحساس بالكدر . شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك ، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة ، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك . وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم ، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات . ففي القرآن { ذق إنّك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، { لا يذوقون فيها الموت } [ الدخان : 56 ] . وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة « ذق عُقق » . وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة ، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] .

والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ ، والوبيل القوي في السوء { فأخذناه أخذاً وبيلا } [ المزمل : 16 ] . وطعام وبيل : سيّء الهضم ، وكلأ وبيل ومستوبل ، تستولبه الإبل ، أي تستوخمه . قال زهير :

إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ

والأمر : الشأن والفعل ، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً . والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب .

وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال : { عفا الله عمّا سلف } ، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه .

والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ ، وهو الخسارة أو التعب ، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم ، وهذا قول الجمهور . وعن ابن عباس ، وشريح ، والنخعي ، ومجاهد ، وجابر بن زيد : أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء . وهذا شذوذ .

ودخلت الفاء في قوله : { فينتقم الله منه } مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي ، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب ، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي ، فالتقدير : فهو ينتقم الله منه ، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره ، أو لقصد التقوّي ، أي تأكيد حصول هذا الانتقام . ونظيره { فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً } [ الجن : 13 ] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز . هذا قول المحقّقين مع توجيهه ، ومن النحاة من قال : إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء ، وإنّه جاء على خلاف الغالب .

وقوله : { والله عزيز ذو انتقام } تذييل . والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر ، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام ، أي لأنّ من صفاته الحكمة ، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)، وذلك أن أبا بشر، واسمه: عمرو بن مالك الأنصاري، كان محرما في عام الحديبية بعمرة، فقتل حمارَ وحشٍ، فنزلت فيه: (ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)، (ومن قتله منكم متعمدا) لقتله ناسيا لإحرامه، (فجزاء)، يعني: جزاء الصيد، (مثل ما قتل من النعم)، يعني: من الأزواج الثمانية، إن كان قتَلَ عمداً أو خطأً، أو أشار إلى الصيد فأُصيب، فعليه الجزاء، (يحكم به ذوا عدل منكم)، يعني: يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين، يحكمان في قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم. إن قتل حمار وحش، أو نعامة، ففيها بعيرٌ ينحره بمكة، يطعم المساكين ولا يأكل هو، ولا أحد من أصحابه، وإن كان من ذوات القرون الأيل والوعل ونحوهما، فجزاؤه أن يذبح بقرة للمساكين، وفي الطير ونحوها جزاؤه أن يذبح شاة مُسنَّة، وفي الحمام شاةٌ، وفي بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهمٌ، وإن لم يكن فيه فرخ، فنصفُ درهم، وفي ولد الحمار الوحش ولدُ بعيرٍ مثلُه، وفي ولد النعامة ولدُ بعيرٍ مثلُه، وفي ولد الأيل والوعل ونحوه ولدُ بقرةٍ مثلُه، وفي فرخ الحمام ونحوه ولدُ شاةٍ مثلُه، وفي ولد الظبي ولدُ شاةٍ مثلُه. (هديا بالغ الكعبة)، يعني ينحر بمكة، كقوله سبحانه في الحج: (ثم محلها إلى البيت العتيق) (الحج: 33)، تذبح بأرض الحرم، فتطعم مساكين مكة، (أو كفارة طعام مساكين)، لكل مسكين نصفُ صاعٍ حنطةً، (أو عدل ذلك صياما)، يقول: إن لم يقدر على الهدي ولا على ثمنه، ولا على إطعام المساكين، فلْيَصُم مكان كل مسكين يوما، ينظر ثمن الهدي فيجعله دراهم، ثم ينظر كم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة، فيصوم مكان كل مسكين يوما، وبكل مسكين نصف صاع حنطة، (ليذوق وبال أمره)، يعني: جزاء ذنبه، يعني: الكفارة عقوبة له بقتله الصيد، (عفا الله عما سلف)، يقول: عفا الله عما كان منه قبل التحريم، يقول: تجاوز الله عما صنع في قتله الصيد متعمدا قبل نزول هذه الآية، (ومن عاد) بعد النهي إلى قتل الصيد، (فينتقم الله منه) بالضرب والفدية وبنزع ثيابه، (والله عزيز)، يعني: منيع في ملكه، (ذو انتقام) من أهل معصيته فيمن قتل الصيد، نزلت هذه الآية قبل الآية الأولى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. 383- يحيى: قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أن يُقوِّم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام. فيطعم كل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما، وينظر كم عدة المساكين، فإن كانوا عشرة، صام عشرة أيام، وإن كانوا عشرين مسكينا، صام عشرين يوما، عددهم ما كانوا، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا. 658... قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]. 384- يحيى: عن مالك، عن عبد الملك بن قرير، عن محمد بن سيرين، أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين، نستبق إلى ثغرة ثنية. فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فما ترى؟ فقال عمر، لرجل إلى جنبه، تعالى حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعشر. فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلا يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة}. وهذا عبد الرحمن بن عوف. 659... قوله تعالى: {بالغ الكعبة} [المائدة: 95] 386- يحيى: قال مالك: والذي حكم عليه بالهدي في قتل الصيد، أو يجب عليه هدي في غير ذلك، فإن هديه لا يكون إلا بمكة، كما قال الله تبارك وتعالى: {هديا بالغ الكعبة}،

وأما ما عدل به الهدي من الصيام أو الصدقة، فإن ذلك يكون بغير مكة، حيث أحب صاحبه أن يفعله فعله. قوله تعالى: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95] 387- يحيى: سُئل مالكٌ: عن الفدية من الصيام، أو الصدقة أو النسك، أصاحبُه بالخيار في ذلك؟ وما النسك؟ وكم الطعام؟ وبأي مد هو؟ وكم الصيام؟ وهل يؤخر شيء من ذلك أن يفعله في فوره ذلك؟ قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا، فصاحبه مُخيَّر في ذلك. أيّ شيء أحب أن يفعل ذلك فعل. قال: وأما النسك فشاة، وأما الصيام فثلاثة أيام، وأما الطعام فيطعم ستة مساكين، لكل مسكين مدان، بالمد الأول مد النبي صلى الله عليه وسلم. قال مالك: وسمعت بعض أهل العلم يقول: إذا رمى المحرم شيئا، فأصاب شيئا من الصيد لم يرده، فقتله، إن عليه أن يفديه. وكذلك الحلال يرمي في الحرام شيئا، فيصيب صيدا لم يرده، فيقتله، إن عليه أن يفديه. لأن العمد والخطأ في ذلك بمنزلة سواء...

تفسير الشافعي 204 هـ :

{لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدا فَجَزَاء مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ} وكان الصيد: ما امتنع بالتوحش كله. وكانت الآية محتملة أن يحرم على المحرم ما وقع عليه اسم صيد، وهو يجزي بعض الصيد دون بعض. فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من الصيد شيئا ليس على المحرم جزاؤه، كل ما يباح للمحرم قتله، ولم يكن في الصيد شيء يتفرق إلا بأحد معنيين: إما بأن يكون الله عز وجل أراد أن يفدي الصيد المباح أكله ولا يفدي ما لا يباح أكله، وهذا أولى معنييه به، والله أعلم. لأنهم كانوا يصيدون ليأكلون، لا ليقتلوا، وهو يشبه دلالة كتاب الله عز وجل، فقال الله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللَّهُ بشيء مِّنَ اَلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وقال عز وجل: {لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} وقال: {اَحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فذكر جل ثناؤه إباحة صيد البحر للمحرم ومتاعا له، يعني طعاما والله أعلم، ثم حرم صيد البر فأشبه أن يكون إنما حرم عليه بالإحرام ما كان أكله مباحا قبل الإحرام. ثم أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم أن يقتل الغراب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور، والأسد، والنمر، والذئب الذي يعدو على الناس، فكانت محرمة الأكل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، فكان ما أبيح قتله معها يشبه أن يكون محرم الأكل لإباحته معها، وأنه لا يضر ضررها. وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكْلَ الضَّبُعِ، وهو أعظم ضررا من الغراب والحدأة والفأرة أضعافا. والوجه الثاني: أن يقتل المحرم ما ضر، ولا يقتل ما لا يضر، ويفديه إن قتله، وليس هذا معناه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل أكل لحم الضبع، وأن السلف والعامة عندهم فدوها، وهي أعظم ضررا من الغراب والحدأة والفأرة. (الأم: 2/244. ون الأم: 2/182. وأحكام الشافعي: 1/126. ومختصر المزني ص: 72. واختلاف الحديث ص: 545) ــــــــــــــــــ

{لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً}: يجزي الصيد من قتله عمدا أو خطأ. فإن قال قائل: إيجاب الجزاء في الآية على قاتل الصيد عمدا، وكيف أوجبته على قاتله خطأ؟ قيل له إن شاء الله: إن إيجاب الجزاء على قاتل الصيد عمدا لا يحظر أن يوجب على قاتله خطأ. فإن قال قائل: فإذا أوجبت في العمد بالكتاب، فمن أين أوجبت الجزاء في الخطأ؟ قيل: أوجبته في الخطأ قياسا على القرآن والسنة والإجماع. فإن قال: فأين القياس على القرآن؟ قيل: قال الله عز وجل في قتل الخطأ: {وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ اِلَى أَهْلِهِ} وقال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ اِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ} فلما كانت النفسان ممنوعتين بالإسلام والعهد، فأوجب الله عز وجل فيهما بالخطأ ديتين ورقبتين، كان الصيد في الإحرام ممنوعا بقول الله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وكان لله فيه حكم فيما قتل منه عمدا بجزاء مثله، وكان المنع بالكتاب مطلقا عاما على جميع الصيد، وكان المالك لما وجب بالصيد أهل الحرم لقول الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} ولم أعلم بين المسلمين اختلافا أن ما كان ممنوعا أن يتلف من نفس إنسان، أو طائر، أو دابة، أو غير ذلك مما يجوز ملكه، فأصابه إنسان عمدا فكان على من أصابه فيه ثمن يؤدى لصاحبه، وكذلك فيما أصاب من ذلك خطا لا فرق بين ذلك إلا المأثم في العمد. فلما كان هذا كما وصفت مع أشباه له كان الصيد كله ممنوعا في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل: {اَحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فلما كان الصيد محرما كله في الإحرام، وكان الله عز وجل حكم في شيء منه بعدل بالغ الكعبة، كان كذلك كل ممنوع من الصيد في الإحرام لا يتفرق، كما لم يفرق المسلمون بين الغرم في الممنوع من الناس والأموال في العمد والخطأ. فإن قال قائل: فمن قال هذا معك؟ قيل: الحجة فيه ما وصفت، وهي عندنا مكتفى بها، وقد قاله ممن قبلنا غيرنا. قال: فاذكره؟ قلت: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قول الله عز وجل: {لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} قلت له: فمن قتله خطا أيغرم؟ قال: نعم يعظم بذلك حرمات الله. ومضت به السنن. أخبرنا مسلم بن خالد وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمرو ابن دينار قال: رأيتُ الناس يُغَرَّمُونَ في الخطأ. (الأم: 2/182-183. ون الأم: 2/207 و 2/192 و 7/31 و 7/300. وأحكام الشافعي: 1/124-125. ومختصر المزني ص: 71) ــــــــــــ

{لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدا فَجَزَاء مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} فأمرهم بالمثل، وجعل المثل إلى عدلين يحكمان فيه، فلما حرم مأكول الصيد عاما كانت لدواب الصيد أمثال على الأبدان. فحكم من حكم من أصحاب رسول الله على ذلك، فقضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعَنَاقٍ، وفي اليربوع بجفرةٍ، والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثل بالبدن لا بالقيم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم، لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامهم فيها واحدة. والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن، ولكنها كانت أقرب الأشياء منه شبها، فجعلت مثله، وهذا من القياس يتقارب تقارب العنز والضبي، ويبعد قليلا بعد الجفرة من اليربوع. ولما كان المثل في الأبدان في الدواب من الصيد دون الطائر لم يجز فيه إلا ما قال عمر ـ والله أعلم ـ

من أن ينظر إلى المقتول من الصيد فيجزى بأقرب الأشياء به شبها منه في البدن، فإذا فات منها شيئا رفع إلى أقرب الأشياء به شبها، كما فاتت الضبعُ العَنْزَ فرفعت إلى الكبش، وصغر اليربوع عن العناق فخُفِضَ إلى الجفرة. وكان طائر الصيد لا مثل له في النَّعَم، لاختلاف خلقته وخلقته، فجزي خبرا وقياسا على ما كان ممنوعا لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه. فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يقَوَّمُ قيمة يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلدٍ ثَمَنَ دِرْهَمٍ، وفي البلد الآخر ثَمَنَ بَعْضِ دِرْهَمٍ. وأُمِرْنَا بإجازة شهادة العدل، وإذا شُرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نَردَّ ما خالفه. وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه. فإذا كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قُبل، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره. لأنه لا يُعَرَّى أحد رأيناه من الذنوب. وإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حَسنه وقبيحه، وإذا كان هذا هكذا فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه. وإذا ظهر حسنه فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرنا فَعَلمَ منه ظهور السَّيِّءِ كان عليه ردُّهُ. وقد حكم الحاكمان في أمرٍ واحدٍ بِرَدٍّ وقبول، وهذا اختلاف، ولكن كل قد فعل ما عليه. (الرسالة: 490-494. ون الأم: 2/194-195 و 2/198 و 2/201 و 7/238. وأحكام الشافعي: 1/123-121.)

{فَجَزَاء مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ} والمثل للمقتول، وقد يكون غائبا، فإنما يُجتهد على أصل الصيد المقتول، فينظر إلى أقرب الأشياء به شبَهًا فيهديه. وفي هذا دليل على أن الله عز وجل لم يبح الاجتهاد إلا على الأصول، لأنه عز وجل إنما أمر بمثل ما قُتل، فأمر بالمثل على الأَصْلِ وليس على غير أصل. (الأم: 6/201. ون الأم: 7/277. والرسالة ص: 38-39.)

قال الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} فلما كان كل ما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديا، كانت الأنعام كلها، وكل ما أهدي فهو بمكة، والله أعلم. ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا، ما انبغى ـ والله أعلم ـ أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزي بشيء من النعم، لا يجزي فيه إلا أن يجزى بمكة، فعلم أن مكة أعظم أرض الله تعالى حرمة. وأولاه أن تنزه عن الدماء، لولا ما عقلنا من حكم الله في أنه للمساكين الحاضرين بمكة. فإذا عقلنا هذا عن الله عز وجل فكان جزاء الصيد بطعام لم يجز ـ والله أعلم ـ إلا بمكة. وكما عقلنا عن الله ذكر الشهادة في موضعين من القرآن بالعدل، وفي مواضع فلم يذكر العدل وكانت الشهادات وإن افترقت تجتمع في أنه يؤخذ بها اكتفينا أنها كلها بالعدل، ولم نزعم أن الموضع الذي لم يذكر الله عز وجل فيه العدل مَعْفُو عن العدل فيه؛ فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة لم يُجْزِ عنه، وأعاد الإطعام بمكة أو بمنًى، فهو من مكة لأنه لحاضر الحرم. ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى، أو طيب، أو لبس، أو غيره، لا يخالفه في شيء لأن كله من جهة النسك، والنسك إلى الحرم، ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم. قال: ومن حضر الكعبة حين يبلغها الهدي من النعم أو الطعام من مسكين، كان له أهل بها أو غريب، لأنهم إنما أعطوا بحضرتها، وإن قل فكان يعطي بعضهم دون بعض أجزأه أن يعطي مساكين الغرباء دون أهل مكة، ومساكين أهل مكة دون مساكين الغرباء، وأن يخلط بينهم. ولو آثر به أهل مكة لأنهم يجمعون الحضور والمقام، لكان كأنه أسرى إلى القلب، والله أعلم. فإن قال قائل: فهل قال هذا أحدٌ يذكر قوله؟ قيل: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: {فَجَزَاء مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ} قال: من أجل أنه أصابه في حرم يريد البيت كفارة ذلك عند البيت. أخبرنا سعيد، عن ابن جريج: أن عطاء قال له مرة أخرى: يتصدق الذي يصيب الصيد بمكة، قال الله عز وجل: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} قال: فيتصدق بمكة. قال الشافعي: يريد عطاء: ما وصفت من الطعام، والنعم كله هدي، والله أعلم. (الأم: 2/184-185. ون أحكام الشافعي: 1/139.)

قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدا فَجَزَاء مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} إلى قوله: {صِيَاما} فكان المصيب مأمورا بأن يفديه. وقيل له: {مِنَ اَلنَّعَمِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَاماً} فاحتمل أن يكون جعل له الخيار بأن يفتدي بأي ذلك شاء، ولا يكون له أن يخرج من واحد منها، وكان هذا أظهر معانيه، وأظهرها الأولى بالآية. وقد يحتمل أن يكون أمر بهدي إن وجده، فإن لم يجده فطعام، فإن لم يجده فصوم كما أمر في التمتع، وكما أمر في الظهار، والمعنى الأول أشبههما. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بأن يكفر بأي الكفارات شاء في فدية الأذى. وجعل الله تعالى إلى المُولي أن يفيء أو يطلق، وإن احتمل الوجه الآخر. فإن قال قائل: فهل قال ما ذهبت إليه غيرك؟ قيل: نعم، أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَاماً} قال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامةً، كان عليه إن كان ذا يسار أن يهدي جزورا، أو عدلها طعاما، أو عدلها صياما، أيتهن شاء من أجل قول الله عز وجل: {فَجَزَاء} كذا وكذا، وكل شيء في القرآن أَوْ، أَوْ فليختر منه صاحبه ما شاء. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: أرأيت إن قدر على الطعام، ألا يقدر على عدل الصيد الذي أصاب؟ قال: ترخيص الله، عسى أن يكون عنده طعام وليس عنده ثمن الجزور، وهي الرخصة. إذا جعلنا إليه ذلك كان له أن يفعل أيُّه شاء وإن كان قادرا على اليسير معه، والاختيار والاحتياط له أن يفدي بنعم، فإن لم يجد فطعام، وأن لا يصوم إلا بعد الإعواز منهما. أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، في قول الله عز وجل: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ اَوْ صَدَقَةٍ اَوْ نُسُكٍ} له أيتهن شاء. أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: كل شيء في القرآن أوْ أوْ، له أيُّه شاء. قال ابن جريج: إلا في قوله: {إِنَّمَا جَزَآؤُا اَلذِينَ يُحَارِبُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ} فليس بمخير فيها. قال الشافعي: وكما قال ابن جريج وعمرو في المحارب وغيره في هذه المسألة أقول. (الأم: 2/187-188.)

{أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَاماً} الآية. أخبرنا سعيد، عن ابن جريج أنه قال لعطاء: ما قوله: {أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَاماً} قال: إن أصاب ما عدله شاة فصاعدا أقيمت الشاة طعاما، ثم جعل مكان كل مُدٍّ يوما يصومه. وهذا إن شاء الله كما قال عطاء، وبه أقول. وهكذا بدنة إن وجبت، وهكذا مد إن وجب عليه في قيمته شيء من الصيد صام مكانه يوما. (الأم: 2/185.)

ــــــــــــ 217- أخبرنا سعيد، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في المحرم يقتل الصيد عمدا: يحكم عليه كُلَّما قتل. فإن قال قائل: فما قول الله عز وجل: {عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ}؟ قيل: الله أعلم بمعنى ما أراد، فأما عطاء بن أبي رباح فذهب إلى {عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} في الجاهلية {وَمَنْ عَادَ} في الإسلام بعد التحريم لقتل الصيد مرة فينتقم الله منه. أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء في قول الله عز وجل: {عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} قال: عفا الله عما كان في الجاهلية، قلت: وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ} قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه في ذلك الكفارة، قال: وإن عمد فعليه الكفارة؟ قلت له: هل في العَوْدِ حدّ يُعلم؟ قال: لا. قلت: أفترى حقا على الإمام أن يعاقبه فيه؟ قال: لا، ذَنْبٌ أَذْنَبَهُ فيما بينه وبين الله تعالى ويفتدي. ولا يعاقبه الإمام فيه، لأن هذا ذنب جعلت عقوبته فدية إلا أن يزعم أنه يأتي ذلك عامدا مستحقا. (الأم: 2/184. ون أحكام الشافعي: 1/128.)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله "لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ "الذي بينت لكم، وهو صيد البرّ دون صيد البحر "وأنْتُمْ حُرُمٌ": وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة والحُرُم: جمع حرام، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد، تقول: هذا رجل حَرَام وهذه امرأة حَرَام، فإذا قيل مُحْرم، قيل للمرأة محرمة. والإحرام: هو الدخول فيه، يقال: أحرم القوم: إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحرم. فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة. "وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدًا": هذا إعلام من الله تعالى ذكره عباده حكم القاتل من المحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمدا.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة العمد الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارة والجزاء في قتله الصيد؛

فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله إحرامه في حال قتله، وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدا قتله فلا حكم عليه وأمره إلى الله. قالوا: وهذا أجلّ أمرا من أن يحكم عليه أو يكون له كفّارة... عن مجاهد في الذي يقتل الصيد متعمدا، وهو يعلم أنه محرم ومتعمد قتله، قال: لا يحكم عليه، ولا حجّ له.

"وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا": هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ أن يصيبه، وهو ناس إحرامه، متعمدا لقتله، أو يصيبه وهو يريد غيره، فذلك يحكم عليه مرّة... قال: متعمدا لقتله، ناسيا لإحرامه.

وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرم لقتل الصيد ذاكرا لحُرمه. عن عطاء، قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.

والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله تعالى حرّم قتل صيد البرّ على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما، بقوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصّيْدَ "ثم بين حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله، ولم يخصص به المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه، بل عمّ في التنزيل بإيجاب كلّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا. وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة ولا دلالة من بعض هذه الوجوه. فإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه، أو عامدا قتله ناسيا لإحرامه، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه، في أنّ على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو: "مثل ما قتل من النّعَم يحكم بِهِ ذوا عدل" من المسلمين "أو كفّارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما".

وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بينا القول فيه في كتابنا «كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع» بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطأ ذكر فنذكر أحكامه.

" فَجَزَاءٌ مِثْل ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ ": وعليه كفارة وبدل، يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول مثل ما قتل من النعم. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: «فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ»...

ثم اختلف أهل العلم في صفة الجزاء، وكيف يجزى قاتل الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم؛

فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبها من النعم، فيجزيه به ويُهديه إلى الكعبة. عن السديّ، قال: أما جزاء مثل ما قتل من النعم؛ فإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة، وإن قتل بقرة أو أيّلاً أو أَرْوَى فعليه بقرة، أو قتل غزالاً أو أرنبا فعليه شاة. وإن قتل ضبّا أو حرباء أو يربوعا، فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن.

عن ابن عباس، في قوله: "فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ" قال: إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدّق به، فإن لم يجد جزاءه قوّم الجزاء دراهم، ثم قوّم الدراهم حنطة، ثم صام مكان كلّ نصف صاع يوما. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعاما وجد جزاء.

وقال آخرون: بل يقوّم الصيد المقتول قيمته من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة.

وأولى القولين في تأويل الآية: إن المقتول من الصيد يجزى بمثله من النعم، كما قال الله تعالى: "فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ" وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم وقد قال الله تعالى: "مِنَ النّعَمِ" لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.

فإن قال قائل: فإن الدراهم وإن لم تكن مثلاً للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيا بما قتل من الصيد مثلاً من النعم؟ قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا أو سليما، أو كان المقتول من الصيد كبيرا أو سليما بقيمته من النعم إلاّ صغيرا أو معيبا، أيجوز له أن يشتري بقيمته خلافه وخلاف صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجد إلاّ خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلاّ مثله، تُرك قوله في ذلك لأن أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته ذلك فيهديه إلاّ ما يجوز في الضحايا، وإذا أجازوا شِرَى مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرا معيبا، أجازوا في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي، وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلاّ ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنزيل وذلك أن الله تعالى أوجب على قاتل الصيد من المحرمين عمدا المثل من النعم إذا وجدوه وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم وهو إلى ذلك واجد سبيلاً.

ويقال لقائل: ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر: ما على قاتل ما لا تبلغ من الصيد قيمته ما يصاب به من النعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام، لأن الله تعالى إنما خير قاتل الصيد من المجرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل سقط عنه فرض الآخرين، لأن الخيار إنما كان له وله إلى الثلاثة سبيل فإذا لم يكون له إلى بعض ذلك سبيل فرض الجزاء عنه، لأنه ليس ممن عُني بالآية نظير الذي قلت أنت إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلاّ ألزم في الاخر مثله.

" يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بالِغَ الكَعْبَةِ ": يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم، يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل. "هَدْيا" يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل أن يُهدي فيبلغ الكعبة. والهاء في قوله «يحكم به» عائدة على الجزاء، ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيا صغيرا حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السنّ والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرا حكما عليه من الضأن بكبير، وإن كان الذي أصاب حمار وحش حكما عليه ببقرة إن كان الذي أصاب كبيرا من البقر، وإن كان صغيرا فصغيرا، وإن كان المقتول ذكرا فمثله من ذكور البقر، وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى، ثم كذلك ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبها من النعم فيحكمان عليه به كما قال تعالى.

وقال آخرون: بل ينظر العدلان إلى الصيد المقتول فيقوّمانه قيمته دراهم، ثم يأمران أن يشتري بذلك من النعم هديا. فالحاكمان يحكمان في قول هؤلاء بالقيمة، وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمته في الموضع الذي أصابه فيه...

" أوْ كَفّارَةٌ طعَامٌ مسَاكِينَ ": أو عليه كفارة طعام مساكين. والكفّارة معطوفة على «الجزاء» في قوله: "فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ".

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "أوْ كَفّارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك أن القاتل وهو محرم صيدا عمدا، لا يخلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى من مثل المقتول هديا بالغ الكعبة، أو طعام مسكين كفّارة لما فعل، أو عدل ذلك صياما، لأنه مخير في أيّ ذلك شاء فعل، وأنه بأيها كان كفر فقد أدّى الواجب عليه، ةوإنما ذلك إعلام من الله تعالى عباده أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرج حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غير ذلك ما دام للمثل واجدا. قالوا: فإن لم يكن له واجدا، أو لم يكن للمقتول مثل من النعم، فكفّارته حينئذ إطعام مساكين. عن ابن عباس قال: إذ قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيلاً أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد، أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمار أو وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما. والطعام مدّ مدّ يشبعهم...

عن ابن عباس، قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاء ذبحه فتصدّق به، وإن لم يجد جزاءه قوّم الجزاء دراهم، ثم قوّمت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كلّ صاع يوما. قال: إنما أريد بالطعام: الصوم، فإذا وجد طعاما وجد جزاء.

عن عطاء ومجاهد وعامر: "أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما لِيَذُوقَ" قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهدي.

عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئا من الصيد عليه جزاؤه من النعم، فإن لم يجد قُوّم الجزاء دراهم، ثم قوّمت الدراهم طعاما، ثم صام لكلّ نصف صاع يوما.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدا عمدا وهو محرم، الخيار بين إحدى الكفّارات الثلاث وهي الجزاء بمثله من النعم والطعام والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ، أوْ كَفّارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ، أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما "فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفّر بإطعام مساكين أو بعدل الطعام من الصيام.

عن عطاء، في قوله:"فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ "قال: ما كان في القرآن «أو كذا أو كذا»، فصاحبه فيه بالخيار، أيّ ذلك شاء فعل.

عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن «أو أو»، فهو فيه بالخيار، وما كان «فمن لم يجد» فالأوّل، ثم الذي يليه.

واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم إذا اختار الكفّارة بأحدهما دون الهدي؛

فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فأن الواجب عليه أن يقوّم المثل من النعم طعاما، ثم يصوم مكان كلّ مدّ يوما. وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يقوّم الصيد المقتول طعاما، ثم يتصدق بالطعام إن اختار الصدقة، وإن اختار الصوم صام.

ثم اختلفوا أيضا في الصوم؛ فقال بعضهم: يصوم لكلّ مدّ يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كلّ نصف صاع يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كلّ صاع يوما.

وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام، لأن من وجد سبيلاً إلى التكفير بالإطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلاً، ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلاً لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفّارة بالإطعام في هذا الموضع ليدلّ على صفة التكفير بالصوم لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفّارات التي يكفر بها قتل الصيد، وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل.

وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله الله تعالى:"فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ "أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدا مثل الذي قتل من النعم، لا القيمة إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم، وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى إنما أوجب الجزاء مثلاً من النعم.

وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"أوْ كَفّارَةٌ طعَامُ مسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما ": أن يكون تخييرا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيّ هذه الكفارات الثلاث شاء، لأن الله تعالى جعل ما أوجب في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرا لذنبه في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حراما عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالاً له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد، ثم جعل عليه إن حلقه جزاء من حلقه إياه، فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من إيذائه مخير في تكفيره، فعليه ذلك بأيّ الكفارات الثلاث شاء، فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، وأنه مخير في تكفيره قتله الصيد بأيّ الكفارات الثلاث شاء، لا فرق بين ذلك. ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفّارة طعام مساكين، أو عدله صياما، كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمت أن أحدهما مخير في تكفير ما جعل منه، عوض بأيّ الثلاث شاء، وأنكرت أن يكون ذلك للاخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك فجعل الخيار فيه حيث أبيت وأبى حيث جعلته له فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولاً، إلا ألزم في الاخر مثله.

ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام؛ فقال بعضهم: يقوّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه.. وقال آخرون: بل يقوّم ذلك بسعر الأرض التي يكفّر بها. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزاه بمثله من النعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه من أقرب الأشياء به شبها من الأنعام، فإنْ جزاه بالإطعام قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام، ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه وإن شاء بمكة وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى إنما شرط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض...

وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدي والإطعام إلا بمكة، فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض... فأما الهدي، فإنه جرّاء ما قتل من الصيد، فلن يجزئه من كفّارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة طيبا، وينحره أو يذبحه، ويتصدّق به على مساكين الحرم. ويعني بالكعبة في هذا الموضع: الحرم كله، ولمن قدم بهدية الواجب من جزاء الصيد أن ينحره في كلّ وقت شاء قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه وكذلك إن كفّر بالطعام، فله أن يكفّر به متى أحبّ وحيث أحبّ، وإن كفّر بالصوم فكذلك.

" أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما ": أو على قاتل الصيد محرما عدل الصيد المقتول من الصيام، وذلك أن يقوّم الصيد حيّا غير مقتول من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كلّ مدّ يوما وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدل المدّ من الطعام بصوم يوم في كفّارة المواقع في شهر رمضان.

فإن قال قائل: فهلاّ جعلت مكان كلّ صاع في جزاء الصيد صوم يوم قياسا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره، وذلك حكمه على كعب بن عجرة، إذ أمره أن يطعم إن كفر بالإطعام فَرْقا من طعام وذلك ثلاثة آصع بين ستة مساكين، فإن كفّر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الأيام الثلاثة في الصوم عدلاً من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاء الصيد أشبه من الكفارة في قتل الصيد بكفارة المواقع امرأته في شهر رمضان؟ قيل: إن القياس إنما هو ردّ الفروع المختلف فيها إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها، ولا خلاف بين الجميع من الحجة، أنه لا يجزئ مكفرّا كفّر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدل صوم يوم بصاع طعام. فإن كان ذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدّث به من الدين مجمعة عليه صحّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعام في قتل الصيد مخالف حكم معادلته إياه في كفّارة الحلق، إذا كان غير جائز، وداخل على آخر قياسا وإنما يجوز أن يقاس الفرع على الأصل، وسواء قال قائل: هلا رددت حكم الصوم في كفّارة قتل الصيد على حكمه في حلق الأذى فيما يعدل به من الطعام وآخر قال: هلا رددت حكم الصوم في الحلق على حكمه في كفّارة قتل الصيد فيما يعدل به من الطعام، فتوجب عليه مكان كل مدّ، أو مكان كل نصف صاع صوم يوم.

وقد بينا فيما مضى قبل أن العَدْل في كلام العرب بالفتح، وهو قدر الشيء من غير جنسه، وأن العِدْل هو قدره من جنسه. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: العَدْل مصدر من قول القائل: عَدَلْت بهذا عَدْلاً حسنا. قال: والعَدْل أيضا بالفتح: المثل، ولكنهم فرّقوا بين العدل في هذا وبين عِدْل المتاع، بأن كسروا العين من عِدْل المتاع، وفتحوها من قولهم: "وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ" وقول الله عزّ وجلّ: "أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما" كما قالوا: امرأة رزان، وحَجَر رزين.

وقال بعضهم: العَدْل: هو القسط في الحقّ، والعِدْل بالكسر: المثل، وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى... "لِيَذُوقَ وَبَالَ أمْرِهِ": أوجبت على قاتل الصيد محرما ما أوجبت من الحقّ أو الكفّارة الذي ذكرت في هذه الآية، كي يذوق وبال أمره وعذابه، يعني «بأمره»: ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عزّ وجلّ عن قتله في حال إحرامه، يقول: فألزمته الكفّارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشقّ عليه. وأصل الوبال: الشدّة في المكروه. ومنه قول الله: "فَعَصى فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً".

وقد بين تعالى ذكره بقوله:"لِيَذُوقَ وَبَالَ أمْرِهِ "أن الكفّارات اللازمة الأموال والأبدان عقوبات منه لخلقه، وإن كانت تمحيصا لهم، وكفّارة لذنوبهم التي كفرّوها بها.

" عَفا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ": يقول جلّ ثناؤه لعباده المؤمنين به ورسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله أيها المؤمنون عما سلف منكم في جاهليتكم من إصابتكم الصيد وأنتم حرم وقتلكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفّارة في مال ولا نفس، ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم بعد تحريمه بالمعنى الذي يقتله في حال كفره وقبل تحريمه عليه من استحلاله قتله، فينتقم الله منه.

وقد يحتمل أن يكون ذلك في معناه: من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة، فأما في الدنيا فإن عليه من الجزاء والكفّارة فيها ما بينت.

عن ابن جريج، عن عطاء:"وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ "قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفّارة، قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه بإلزامه الكفّارة.

وقال آخرون: في ذلك: عفا الله عما سلف مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ منكم الصيد حراما في أوّل مرّة، ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حراما، فالله وليّ الانتقام منه دون كفّارة تلزمه لقتله إياه.

عن ابن عباس: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرّة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله عزّ وجلّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذلك عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه عالما بتحريمه ذلك عليه، عامدا لقتله، ذاكرا لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفّارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.

وقال آخرون: عُني بذلك شخص بعينه.

[عن] زيد أبو المعلى: أن رجلاً أصاب صيدا وهو محرم، فُتُجوّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله: "وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ" قال: في الإسلام.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: معناه: ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفّارة، لأن الله عز وجلٍ إذ أخبر أنه ينتقم منه لم يخبرنا، وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدا ما أوجب من الجزاء أو الكفّارة بقوله:"وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ "أنه قد أزال عنه الكفّارة في المرّة الثانية والثالثة، بل أعلم عباده ما أوجب من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل: ولا كفّارة عليه في الدنيا.

فإن ظنّ ظانّ أن الكفّارة مزيلة للعقاب، ولو كانت الكفّارة لازمة له في الدنيا لبطل العقاب في الاخرة، فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عزّ وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء، وأحبّ فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقص من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزاني البكر والزاني الثيب المحصن، وبين سارق ربع دينار وبين سارق أقلّ من ذلك فكذلك خالف بين عقوبته قاتل الصيد من المحرمين عمدا ابتداء وبين عقوبته عودا بعد بدء، فأوجب على البادئ المثل من النعم، أو الكفّارة بالإطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جرمه بقوله:"لِيذُوقَ وَبالَ أمْرِهِ "وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عباده أنه فاعل من الانتقام تغليظا منه للعود بعد البدء. ولو كانت عقوبته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حدّ في شيء مخالفا حدّا في غيره، ولا عقاب في الاخرة أغلظ من عقاب، وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان. وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نهي الله عن قتله لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه، وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال، فعليه الجزاء والكفّارة كلما عاد. وهذا قول لا نعلم قائلاً قاله من أهل التأويل، وكفى خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عمّ بقوله:"وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ "كل عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية، ولم يخصّ به عائدا منهم دون عائد، فمن ادّعي في التنزيل ما ليس في ظاهره كلف البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له.

وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدا بعد بدء لقتل تقدّم منه في حال إحرامه فينتقم الله منه، فإن معنى قوله:"عَفا اللّهُ عَمّا سَلَفَ "إنما هو: عفا عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءا، فإن في قول الله تعالى:"لِيَذُوقَ وَبالَ أمْرِهِ "دليلاً واضحا على أن القول في ذلك غير ما قال، لأن العفو عن الجرم ترك المؤاخذة به، ومن أذيق وبال جرمه فقد عوقب به، وغير جائز أن يقال لمن عوقب قد عفي عنه، وخبر الله أصدق من أن يقع فيه تناقض.

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفّارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عزّ وجلّ أن يعاقبه به؟ قيل له: فإن كان ذلك جائزا أن يكون تأويل الآية عندك وإن كان مخالفا لقول أهل التأويل، فما ينكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أوّل مرّة مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبال أمره الذي أذاقه المرّة الأولى، ويترك عفوه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلم يقل في ذلك شيئا إلا ألزم في الاخر مثله.

" وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ": والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع، لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزّة والمنعة. وأما قوله:"ذُو انتِقام "فإنه يعني به: معاقبته لمن عصاه على معصيته إياه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) أي وأنتم محرمون. الآية في ظاهرها على قتل الصيد كله. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في أشياء، أذن في قتلها؛ فيُقال: في خمس من الدّواب لا جناح على من قتلهنّ، وهو محرم في الحرم: الحِدَأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(يحكم به ذوا عدل منكم) وفيه دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فيمن تعمد؛ فقد روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد، والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى: {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط العمد في الآية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل {ليبلونكم} [المائدة: 94] و {الصيد} مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم...

وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} الذوق هنا مستعار كما قال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} 10 وكما قال {فأذاقها الله لباس الجوع} 11، وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس 13، والوبال: سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله 14، وعبر [بأمره] عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {عفا الله عما سلف} فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه: معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلاً فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصياً فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.

ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله، وقال ابن عباس رضي الله عنه: المحرم إذا قتل مراراً ناسياً لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد، وقال سعيد بن جبير: رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.

وهذ القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر، لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة، وقال ابن زيد: معنى الآية {عفا الله عما سلف} لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه، وهو موكول إلى نقمة الله، ومعنى قوله {متعمداً} في صدر الآية أي متعمداً للقتل ناسياً للحرمة.

{والله عزيز ذو انتقام} تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة، ومن خاف ازدجر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبرهم بالابتلاء صرح لهم بما لوح إليه بذكر المخافة من تحريم التعرض لما ابتلاهم به، فقال منوِّهاً بالوصف الناهي عن الاعتداء: {يا أيها الذين آمنوا} وذكر القتل الذي هو أعم من الذبح إشارة إلى أن الصيد -لما عنده من النفرة المانعة من التمكن من ذبحه- يحبس بأي وجه كان من أنواع القتل فقال: {لا تقتلوا الصيد} أي لا تصطادوا ما يحل أكله من الوحش، وأما غير المأكول فيحل قتله، فإنه لاحظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه المراد بالفسق في قوله صلى الله عليه وسلم:"خمس في الدواب فواسق، لا جناح على من قتلها في حل ولا حرم" وذكر منهن السبع العادي، فدل الحكم برفع الجناح عقب الوصف بالفسق على أنه علة الإباحة، ولا معنى لفسقها إلا أذاها {وأنتم حرم} أي محرمون أو في الحرم.

ولما كان سبحانه عالماً بأنه لا بد أن يوافق موافق تبعاً لأمره ويخالف مخالف موافقة لمراده، شرع لمن خالف كفارة تخفيفاً منه على هذه الأمة ورفعاً لما كان على من كان من قبلها من الآصار، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن انتهى فله عند ربه أجر عظيم: {ومن قتله منكم متعمداً} أي قاصداً للصيد ذاكراً للإحرام إن كان محرماً، والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم.

ولما كان هذا الفعل العمد موجباً للإثم والجزاء، ومتى اختل وصف منه كان خطأ موجباً للجزاء فقط، وكان سبحانه قد عفا عن الصحابة رضي الله عنهم العمد الذي كان سبباً لنزول الآية كما في آخرها، لم يذكره واقتصر على ذكر الجزاء فقال: {فجزاء} أي فمكافأة {مثل ما قتل} أي أقرب الأشياء به شبهاً في الصورة لا النوع، ووصف الجزاء بقوله: {من النعم} لما قتله عليه، أي عليه أن يكافئ ما قتله بمثله، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، هذا على قراءة الجماعة بإضافة "جزاء "إلى "مثل"، وأما على قراءة الكوفيين ويعقوب بتنوين" جزاء "ورفع" مثل "فالأمر واضح.

ولما كان كأنه قيل: بما تعرف المماثلة؟ قال: {يحكم به} أي بالجزاء؛ ولما كانت وجوه المشابهة بين الصيد وبين النعم كثيرة، احتاج ذلك إلى زيادة التأمل فقال: {ذوا عدل منكم} أي المسلمين، وعن الشافعي أن الذي له مثل ضربان: ما حكمت فيه الصحابة، وما لم تحكم فيه، فما حكمت فيه لا يعدل إلى غيره لأنه قد حكم به عدلان فدخل تحت الآية، وهم أولى من غيرهم لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل؛ وما لم يحكموا به يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام، فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه؛ فإن كان القتل خطأ جاز أن يكون الفاعل أحد الحكمين، وإن كان عمداً فلا، لأنه يفسق به.

ولما كان هذا المثل يساق إلى مكة المشرفة على وجه الإكرام والنسك رفقاً بمساكينها، قال مبيناً لحاله من الضمير في" به ": {هدياً} ولما كان الهدي هو ما تقدم تفسيره، صرح به فقال: {بالغ الكعبة} أي الحرم المنسوب إليها، وإنما صرح بها زيادة في التعظيم وإعلاماً بأنها هي المقصودة بالذات بالزيارة والعمارة لقيام ما يأتي ذكره، تذبح الهدي بمكة المشرفة ويتصدق به على مساكين الحرم، والإضافة لفظية لأن الوصف بشبه "يبلغ" فلذا وصف بها النكرة.

ولما كان سبحانه رحيماً بهذه الأمة، خيرها بين ذلك وبين ما بعد فقال: {أو} عليه {كفارة} هي {طعام مساكين} في الحرم بمقدار قيمة الهدي، لكل مسكين مد {أو عدل ذلك} أي قيمة المثل {صياماً} في أيّ موضع تيسر له، عن كل مد يوم، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.

ولما كان الأمر مفروضاً في المتعمد قال معلقاً بالجزاء، أي فعليه أن يجازي بما ينقص المال أو يؤلم الجسم {ليذوق وبال} أي ثقل {أمره} وسوء عاقبته ليحترز عن مثل ما وقع فيه؛ ولما كان هذا الجزاء محكوماً به في دار العمل التي لا يطلع أهلها بمجرد عقولهم فيها على غيب، ولا يعرفون عاقبة أمر إلاّ تخرصاً، طرد الحكم في غير المتعمد لئلا يدعي المتعمد أنه مخطئ، كل ذلك حمى لحرمة الدين وصوناً لحرمة الشرع وحفظاً لجانبه ورعاية لشأنه، ولما كان قد مضى منهم قبل نزولها من هذا النوع أشياء، كانوا كأنهم قالوا: فكيف نصنع بما أسلفنا؟ قال جواباً: {عفا الله) أي الغني عن كل شيء الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال (عما سلف} أي تعمده، أي لكم من ذلك، فمن حفظ نفسه بعد هذا فاز {ومن عاد} إلى تعمد شيء من ذلك ولو قل؛ ولما كان المبتدأ متضمناً معنى الشرط، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بالسببية فقال: {فينتقم الله} أي الذي له الأمر كله {منه} أي بسبب عوده بما يستحقه من الانتقام.

ولما كان فاعل ذلك منتهكاً لحرمة الإحرام والحرم، وكان التقدير: فالله قادر عليه، عطف على ذلك ما اقتضاه المقام من الإتيان بالاسم الأعظم ووصف العزة فقال: {والله} أي الملك الأعلى الذي لا تداني عظمتَه عظمةٌ {عزيز} لا يغلب {ذو انتقام} ممن خالف أمره.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... اعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين: حال كون الصائد محرِماً، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالاً؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه.

.. فالتحريم لصيد حيوان البرّ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر. ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة. وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم.

والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه. ويلحق بالصيد الوحوش كلّها. قال ابن الفرس: والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ، كما يقال: بئس الرميَّة الأرنب، وإن لم ترم بعد. وخصّ من عمومه ما هو مضرّ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير. ودليل التخصيص السنّة. وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد. ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم.

وقوله: {وأنْتم حُرُم} حُرُم جمع حرام، بمعنى مْحرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة. ويطلق المحرم على الكائن في الحرم.

.. فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة. وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده. فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق. وفي صيده الجزاء. وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي.

وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب. وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر (جبل) إلى ثور "قيل: هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة. قال النووي: أكثر الرواة في كتاب « البخاري» ذكروا عيَراً، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال: من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ. وقيل: إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني. وقيل: ثور جبل صغير وراء جبل أحُد.

وقوله: {ومن قتله منكم} الخ، (مَن) اسم شرط مبتدأ، و {قتله} فعل الشرط، و {منكم} صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا. وفائدة إيراد قوله {منكم} أعرض عن بيانها المفسّرون. والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدّم آنفاً.

وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل.

وقوله {متعمّداً} قيد أخرج المخطئ، أي في صيده. ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطئ أنّهما يكفّران. ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة. وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار: إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم، أي قاسه على الغُرم. والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما. ومضى بذلك عمل الصحابة.

. والجزاء العوض عن عمل، فسمّى الله ذلك جزاء، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار.

وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه. وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء. وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.

وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه {ليذوق وبال أمره}. وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى: {جزاءاً وفاقاً} [النبأ: 26].

وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير، وأكثر صيد العرب من الدوابّ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة. وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا. وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة. وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد. والقيمة عند مالك طعام. وقال أبو حنيفة: دارهم. فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً، ولكسر المدّ يوماً كاملاً. وقال أبو حنيفة: يشتري بالقيمة هدياً إن شاء، وإن شاء اشترى طعاماً، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً.

وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزئ في الضحايا والهدايا. فقال مالك: لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال: {هدياً بالغ الكعبة}. فما لا يجزئ أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام.

وقال مالك في « الموطأ»: وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره. وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة. وقال الشافعي وبعض علماء المدينة: إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في « الموطأ» عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة. قال الحفيد ابن رشد في كتاب « بداية المجتهد»: وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود اهـ.

وأقول: لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة}. فإنّ ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزئ في الهدايا. فمن العجب قول ابن العربي: إنّ قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا. ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا. والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام. ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها، خلافاً لداوود الظاهري، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله.

وقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} جملة في موضع الصفة ل {جزاء} أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه. والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين. وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما. ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره.

وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان. ووُصف {ذوا عدل} بقوله: {منكم} أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء.

وقوله: {هدياً بالغ الكعبة} حال من {مثل ما قتل}، أو من الضمير في (به). والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة. والمنحر: منى والمروة. ولما سمّاه الله تعالى {هدياً} فله سائر أحكام الهدي المعروفة. ومعنى {بالغ الكعبة} أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة.

وقوله: {أو كفّارة طعام مساكين} عطف على {فجزاء} وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة. وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة. وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين. فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين. وهو قول الأكثر من العلماء. وعن ابن عباس: تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً. وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد. قال مالك: أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين. ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام. فعن ابن عباس: تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً، وحمار الوحش بثلاثين، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين.

و {أو} في قوله {أو كفارة طعام مساكين} وقوله: {أو عدل ذلك} تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة. وكذلك كل أمر وقع ب« أو» في القرآن فهو من الواجب المخيّر. والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل: الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين. وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل: الخيار للحكمين. وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن. ومن العلماء من قال: إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام، فهي عندهم على الترتيب. ونسب لابن عباس.

.. وقوله {أو عدْل ذلك صياماً} عطف على {كفّارة} والإشارة إلى الطعام. والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه. وأصل معنى العدل المساواة. وقال الراغب: إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا. وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل: هما مترادفان. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى {طعام مساكين}. وانتصب {صياماً} على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير.

وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين. وقال مالك والشافعي: يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً. وقال أبو حنيفة: عن كلّ مُدَّين يوماً، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور: لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين، وقال بعض أهل العلم: لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات. وعن ابن عباس: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.

وقوله {ليذوق} متعلّق بقوله {فجزاء}، واللاّم للتعليل، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره.

والذوق مستعار للإحساس بالكدر. شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك. وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات. ففي القرآن {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]، {لا يذوقون فيها الموت} [الدخان: 56]. وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة « ذق عُقق». وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} [النحل: 112].

والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ، والوبيل القوي في السوء {فأخذناه أخذاً وبيلا} [المزمل: 16]. وطعام وبيل: سيّء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستولبه الإبل، أي تستوخمه..

والأمر: الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً. والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب.

وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال: {عفا الله عمّا سلف}، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.

والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور. وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد، وجابر بن زيد: أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء. وهذا شذوذ.

ودخلت الفاء في قوله: {فينتقم الله منه} مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي، فالتقدير: فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره، أو لقصد التقوّي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام. ونظيره {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً} [الجن: 13] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدأ فحصل التقوّي مع إيجاز. هذا قول المحقّقين مع توجيهه، ومن النحاة من قال: إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنّه جاء على خلاف الغالب.

وقوله: {والله عزيز ذو انتقام} تذييل. والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام، أي لأنّ من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها.