وإنها لحقيقة . . أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون ، كما أن الله هو ولي المؤمنين . . وهي حقيقة رهيبة ، ولها نتائجها الخطيرة . . وهي تذكر هكذا مطلقة ؛ ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة ؛ فنرى كيف تكون ولاية الشيطان ؛ وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم . . وهذا نموذج منها :
( وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) . .
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب ؛ وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام - وفيهم النساء ! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها . فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها ، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها !
وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول : ما للدين وشؤون الحياة ؟ وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله ! إنما كانوا يفترون الفرية ، ويشرعون الشريعة ، ثم يقولون : الله أمرنا بها ! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث ، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية ؛ فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله . . ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله !
والله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله ؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة ، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها :
( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء . أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) :
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً - والفاحشة : كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة ، فالله لا يأمر به . وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده ؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى ؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك ؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء . إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله . وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه . وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله ، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله . فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله . . وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه ، وهو يزعم أنه دين الله ! !
إن الجاهلية هي الجاهلية . وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة . وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً ؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة ، على تباعد الزمان والمكان . . وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول : شريعة الله ! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها ، وهو يقول : إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك ! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا ! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك ، . . وحجته هي هواه ! ! !
{ وإذا فعلوا فاحشة } معطوف على { للذين لا يؤمنون } [ الأعراف : 27 ] فهو من جملة الصّلة ، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة ، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك ، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين ، بقرينة قوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } والمقصود من جملتي الصّلة : تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش ، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول . وجاء الشّرط بحرف { إذا } الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة .
والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي : فَعْلَة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه ، فصارت الفاحشة اسماً للعمل الذّميم ، وهي مشتقّة من الفُحْش بضمّ الفاء وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه ، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة ، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة ، وينكرها أولو الأحلام ، ويستحيي فاعلها من النّاس ، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة ، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة ، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع ، كأفعال أهل الجاهليّة ، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد ، ومثل العراء في الحجّ ، وترك تسمية الله على الذّبائح ، وهي من خَلق الله وتسخيره ، والبغاء ، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء ، وحرمان الأقارب من الميراث ، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه ، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل ، وتحريمهم على أنفسهم كثيراً من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم . وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لاقصرها عليه فكأن أيمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم ، وجِماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالِفين الذين هم قدوة لخلفهم ، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا ، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم ، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى ، ففهم منه أنّهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم ، فمعنى قولهم : { والله أمرنا بها } ليسَ ادّعاءَ بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمرُ الله آباءَهم أمراً لهم ، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم ، فهذا معنى استدلالهم ، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتماداً على فطنة المخاطبين .
وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا } : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع ، وقد يكون القائل غير الفاعل ، والفاعل غير قائل ، اعتداداً بأنّهم لما صَدّق بعضهم بعضاً في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم .
وأفاد الشّرط رَبْطاً بين فعلهم الفاحشة وقولهم : { وجدنا عليها آباءنا } باعتبا إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق ، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم ، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر ، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل ، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً ، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت ، وقد قال لهم زيد بن عمرو : « إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره » وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً .
وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه : كما وقع لامرىء القيس ، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حُجْراً ، فقصد ذا الخَلَصة صنمَ خَثْعَمَ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال :
لو كنتَ يا ذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لَمْ تنهَ عن قتل العُداة زُوراً
ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة ، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار . وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم .
ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلاً لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها ، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه ، فإنّ قولهم : { والله أمرنا بها } دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة ، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى .
وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله : { قل إن الله لا يأمرنا بالفحشاء } فَأعْرَضَ عن ردّ قولهم : { وجدنا عليها آباءنا } لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم ، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش ، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر ، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم ، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهياً وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى ، وهي مناط الاستدلال ، أعني قولهم : { والله أمرنا بها } .
فقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } نقض لدعواهم أنّ الله أمَرهم بها أي بتلك الفواحش ، وهو ردّ عليهم ، وتعليم لهم ، وإفاقة لهم من غرورهم ، لأنّ الله متّصف بالكمَال فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه ، فكون الفعل فاحشة كاف في الدّلالة على أنّ الله لا يأمر به لأنّ الله له الكمال الأعلى ، وما كان اعتذارهم بأنّ الله أمر بذلك إلاّ عن جهل ، ولذلك وبَّخهم الله بالاستفهام التّوبيخي بقوله : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } أي ما لا تعلمون أنّ اللهأمر به ، فحُذف المفعول لدلالة ما تقدّم عليه ، لأنّهم لم يعلموا أنّ الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه ، وإنّما قالوه عن مجرّد التّوهّم ، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل .
وضمن : { تقولون } معنى تكذيون أو معنى تتقَوّلون ، فلذلك عُدّي بعَلى ، وكان حقّه أن يعدى بعَنْ لو كان قولاً صحيح النّسبة ، وإذ كان التّوبيخ وارداً على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يُتحقّق عدمُ وروده من الله أحرى .
وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أيمّة الكفر ، وقادة الشّرك : مثل عَمْرو بن لُحَي ، الذي وَضَعَ عبادة الأصنام ، ومثل أبي كَبشة ، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب ، ومثل ظالم بن أسْعد ، الذي وضع عبادة العُزى ، ومثل القلَمَّسِ ، الذي سنّ النَّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوتِ الشّرك .
واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم مَن ليسوا أهلاً لأنّ يقلَّدوا ، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلِّديهم ، إلاّ بأنّهم أقدم جيلاً ، وأنّهم آباؤهم ، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة ، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه ، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد ، والتّقليد في الفساد يستوي ، هو وتسنينه ، في الذّم ، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح : « مَا من نفس تُقتل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْل من دمها ذلك لأنّه أوّلُ من سَنّ القتل » وحديث : « مَن سَنّ سُنّة سَيِّئة فعليه وزرها ووزر من عَمِل بها إلى يوم القيامة » . فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلاً في فعل الفواحش .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... عن مجاهد:"وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أمَرَنا بِها" قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمّهاتنا... فتأويل الكلام إذن: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء قبيحا من الفعل وهو الفاحشة، وذلك تعرّيهم للطواف بالبيت وتجرّدهم له، فعُذِلوا على ما أتوا من قَبيح فعلهم وعُوتبوا عليه، قالوا: وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا، فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا به، فنحن نتبع أمره فيه. يقول الله جلّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم: "إن الله لا يأمر بالفحشاء"، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومَساويها، أتقولون أيها الناس على الله ما لا تعلمون يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرّي والتجرّد من الثياب واللباس للطواف، وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال ابن عباس رضي الله عنه كل معصية فاحشة، والفاحشة كل ما عظم فيه النهي، فإذا ارتكبوا ذلك فهو فاحشة.
وقوله تعالى: {والله أمرنا بها} [فيه وجهان: أحدهما] ادّعوا في ذلك أمر الله ورضاه فيه، ويقولون: لو لم يرض بذلك، ولو لم يأمرهم لكان ينكّلهم، وينتقم منهم؛ يعنون آباءهم، فاستدلّوا بتركهم وما فعلوا أن الله قد كان رضي بذلك، وأمرهم أن يفعلوا ذلك. فدلّ تركه إياهم على ذلك على أنه قد أمرهم بذلك، ورضي عنهم... والثاني: كأنهم أخذوا ذلك من المسلمين لمّا سمعوا من المسلمين ما قالوا: ما شاء الله كان، ظنوا أن ما كان من آبائهم كان بأمر الله ورضاه؛ لم يفصلوا بين المشيئة والأمر.
وقوله تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} هو ما ذكرنا: ما عظم النهي فيه، أو كل ما يشتدّ فيه النهي، أو يغلظ، أو يكثر، هو الفحشاء. ألا ترى أنه يقال لكل شيء يكثر فحشه من نحو الكلام وغيره: إنه إذا خرج عن حدّه، وجاوز حدّه في القبح، أو جاوز الحدّ من الكثرة؟ وهم أكثروا الافتراء على الله؟...
{أتقولون على الله ما لا تعلمون} لأنهم لم يكونوا يؤمنون بالرسل، ولا كان لهم كتاب، فكيف تعلمون أن الله أمركم بذلك، وهو كقوله تعالى: {قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18]... وأسباب العلم هذا: إما الرسل يخبرون عن الله ذلك، وإما الكتاب يجدون فيه مكتوبا، فيعلمون، فتسع الشهادة بذلك، وهم قوم لا يصدّقون الرسل، ولا يؤمنون بخبرهم، وليس لهم كتاب أيضا يقرؤونه، فما بقي إلا وحي الشيطان إليهم كقوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} [الأنعام: 121]...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والثاني: أنها في عبدة الأوثان، والفاحشة التي فعلوها الشرك، قاله الحسن.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي الآية حجة على أصحاب المعارف، وأهل التقليد، لأنه ذم الفريقين، ولو كان الأمر على ما يقولون لما توجه عليهما الذم!.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها. وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق للعلم. والثاني: افتراء على الله وإلحاد في صفاته،...
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما، وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، والأولى أن يحكم بالتعميم، والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، واعلم أنه ليس المراد منه أن القوم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش. ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها، فإن ذلك لا يقوله عاقل. بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش، والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات، وإن الله أمرهم بها،... ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين. أحدهما: أنا وجدنا عليها آباءنا. والثاني: أن الله أمرنا بها. أما الحجة الأولى: فما ذكر الله عنها جوابا، لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة، فلو كان التقليد طريقا حقا للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقا ومعلوم أنه باطل، ولما كان فساد هذا الطريق ظاهرا جليا لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه. وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: {والله أمرنا بها} فقد أجاب عنه بقوله تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها؟... ثم قال تعالى: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وفيه بحثان:
البحث الأول: المراد منه أن يقال: إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء؟
أما الأول: فمعلوم الفساد بالضرورة.
وأما الثاني: فباطل على قولكم، لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق، لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش، وهم كانوا ينكرون أصل النبوة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى، فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولا على الله تعالى بما لا يكون معلوما. وإنه باطل...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر، وأبلغ واعظ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} والقائلون: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية، والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية، والنصرانية، أو البدعية، وأحسنوا الظنّ بهم، بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب، وبحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير، من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشرّ بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال: {وَمَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعدّدون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به...
وإن من أعجب الغفلة، وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله، ووجود سنة رسوله، ووجود من يأخذونهما عنه، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا بيان لبعض آثار ولاية الشياطين للذين لا يؤمنون، أي أنهم يطيعونهم في إغوائهم في أقبح الأشياء ولا يشعرون بقبحها...
فأما اعتذارهم بالتقليد فقد رده الكتاب العزيز في مواضع تقدم بعضها في سورتي البقرة والمائدة، وقال مفسرو المتكلمين كالزمخشري والبيضاوي والرازي إنه تعالى لم يجب عن هذه الحجة وهي محض التقليد لما تقرر في العقول من أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وهو محال. فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه، وهذا تقرير الرازي، وقوله بفساد التقليد وكونه حجة داحضة في نظر العقول السليمة صحيح، ولكن زعمه أن هذا سبب لعدم الرد غير صحيح فقد رد تعالى عليهم بمثل قوله: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (البقرة 170) والصواب أنه استغنى عن الرد الصحيح هنا برد ما اقترن به المتضمن للرد عليه وبيان بطلانه، وهو زعمهم أن الله تعالى أمرهم بتلك الفحشاء التي وجدوا عليها آباءهم فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدحضه بقوله لهم: {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} فهذا القول تكذيب لهم من طريقي العقل والنقل، أما الأول فتقريره أن هذا الفعل لا خلاف بينكم وبيننا في أنه من الفحشاء أي أقبح القبائح والله تعالى منزه بكماله المطلق الذي لا شائبة للنقص فيه أن يأمر بالفحشاء، وإنما الذي أمر بها هو الشيطان الذي هو مجمع النقائص كما قال تعالى في آية أخرى {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} (البقرة 268) وهذا حجة على من ينكر الحسن والقبح العقلي في الأحكام الشرعية لأجل مخالفة من توسعوا في تحكيم العقل في ذلك، وأما طريق النقل فهو أن ما يسند إلى الله تعالى من أمر ونهي لا يثبت بمجرد الدعوى بل يجب أن يعلم بوحي منه تعالى إلى رسول من عنده ثبتت رسالته بتأييده تعالى له بالآيات البينات، فالاستفهام في قوله تعالى: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} للإنكار المتضمن للتوبيخ وللرد على المقلدين فإنهم باتباع آبائهم وأجدادهم وشيوخهم في آرائهم وأعمالهم الدينية غير المسندة إلى الوحي الإلهي يقولون على الله ما لا يعلمون أنه شرعه لعباده...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} وصدقوا في هذا. {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} وكذبوا في هذا، ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وإنها لحقيقة.. أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون، كما أن الله هو ولي المؤمنين.. وهي حقيقة رهيبة، ولها نتائجها الخطيرة.. وهي تذكر هكذا مطلقة؛ ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة؛ فنرى كيف تكون ولاية الشيطان؛ وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم.. وهذا نموذج منها: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها).. وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب؛ وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام -وفيهم النساء!- ثم يزعمون أن الله أمرهم بها. فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها! وهم -على شركهم- لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول: ما للدين وشؤون الحياة؟ وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله! إنما كانوا يفترون الفرية، ويشرعون الشريعة، ثم يقولون: الله أمرنا بها! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية؛ فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله.. ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله! والله -سبحانه- يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها... (قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء. أتقولون على الله ما لا تعلمون؟):... إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً -والفاحشة: كل ما يفحش أي يتجاوز الحد- والعري من هذه الفاحشة، فالله لا يأمر به. وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء. إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله. وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه. وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله. فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله.. وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه، وهو يزعم أنه دين الله!!... إن الجاهلية هي الجاهلية. وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة. وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة، على تباعد الزمان والمكان.. وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول: شريعة الله! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها، وهو يقول: إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك،.. وحجته هي هواه!!! أتقولون على الله ما لا تعلمون؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقولهم: {وجدنا عليها آباءنا} باعتبار إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت، وقد قال لهم زيد بن عمرو: « إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً. وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه... ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار. وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقال تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} ولم يقل (ما أمر بذلك)، أو ما أمر بالفحشاء، بل قال نافيا الأمر بالفعل المضارع: {لا يأمر بالفحشاء} فلا يمكن أن يأمر بذلك لا في الماضي ولا في المستقبل، وليس من شأنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكان النفي بالمضارع؛ لأنه نفي لشأن الله.