( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . قد جاءتكم بينة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية ، فذروها تأكل في أرض الله ، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم . واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبوأكم في الأرض ، تتخذون من سهولها قصوراً ، وتنحتون الجبال بيوتاً ، فاذكروا آلاء الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا : إنا بما أرسل به مؤمنون ، قال الذين استكبروا : إنا بالذي آمنتم به كافرون . فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين ) . .
وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية ؛ وهي تمضي في خضم التاريخ . وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية ؛ ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل ، ومصرع جديد من مصارع المكذبين .
( وإلى ثمود أخاهم صالحاً . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .
ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود . وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ . .
ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح ، حين طلبها قومه للتصديق :
( قد جاءتكم بينة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية ) . .
والسياق هنا ، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة ، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب ، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة ، بل يعلن وجودها عقب الدعوة . وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بينة من ربهم ، وأنها ناقة الله وفيها آية منه ، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية ، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي . مما يجعلها بينة من ربهم ، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى ، ويجعلها آية على صدق نبوته . . ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن - وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر - فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها :
( فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) . .
إنها ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض الله ، وإلا فهو النذير بسوء المصير . .
الواو في قوله : { وإلى ثمود } مثلها في قوله : { وإلى عاد أخاهم هوداً } [ الأعراف : 65 ] ، وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى : { من إله غيره } .
وثمود أمّة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء ثمود بن جَاثَر بجيم ومثلّثة كما في « القاموس » ابن إرَم بن سام بن نوح فيلتقون مع عاد في ( إرَم ) وكانت مساكنهم بالحِجْر بكسر الحاء وسكون الجيم بَين الحجاز والشّام ، وهو المكان المسمّى الآن مَدائِن صالح وسُمّي في حديث غزوة تبوك : حِجْرَ ثَمُودَ .
وصالحٌ هو ابن عَبِيل بلام في آخره وبفتح العينْ ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن عَبيل بن جاثر ويقال كاثرَ ابن ثمود . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التّحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنّه مضبوط في سَميه الذي هو جَد قبيلةٍ ، كما في « القاموس » .
وثمودَ هنا ممنوع من الصّرف لأنّ المراد به القبيلة لا جدّها . وأسماء القبائل ممنوعة من الصّرف على اعتبار التّأنيث مع العلميّة وهو الغالب في القرآن ، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفاً كما في قوله تعالى : { ألاَ إنّ ثموداً كفروا ربّهم } [ هود : 68 ] على اعتبار الحيّ فينتفي موجب منع الصّرف لأنّ الاسم عربي .
وقوله : { ما لكم من إله غيره } يدلّ على أنّ ثمود كانوا مشركين ، وقد صُرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها . والظّاهر أنّهم عبدوا الأصنام التي عبدتها عاد لأنّ ثمود وعادا أبناء نسب واحد ، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة . وقد قال المفسّرون : أنّ ثمود قامت بعد عاد فنمَتْ وعظمت واتسعت حضارتها ، وكانوا مُوحدين ، ولعلّهم اتّعظوا بما حلّ بعاد ، ثمّ طالت مدّتهم ونعم عيشهم فَعَتوا ونسُوا نعمة الله وعَبَدوا الأصنام فأرسل الله إليهم صالحاً رسولاً يدعوهم إلى التّوحيد فلم يتَّبعه إلاّ قليل منهم مُستضعفون ، وعصاه سادتهم وكبراؤهم ، وذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم ، فقد : { قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مرجُوّا قبل هذا أتَنْهَانا أن نعبد ما يَعْبُد آباؤُنا وإننا لفي شكّ ممَّا تدعُونا إليه مُريب } [ هود : 62 ] . وتدلّ آيات القرآن وما فُسّرت به من القصص على أنّ صالحاً أجَّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية ، وأنّهم تَارَكُوها ولم يُهيجوها زمناً طويلاً .
فقد أشعرت مجادلتهم صالحاً في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر ، وأنّ غُلواءهم في المكابرة أخذت تقصر ، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين ، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوممِ هود ، وبين جواب قوم صالح .
ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم ولِيَزِنوا أمرهم ، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال ؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحْنق على رسولهم ، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ ، والإمهال لهم أقطعُ لعذرهم ، وأنهض بالحجّه عليهم ، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراماً لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة ، كما قال تعالى لنوح : { أنّه لم يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [ هود : 36 ] .
وجملة : { قد جاءتكم بينة من ربكم } إلخ ، هي من مقوللِ صالححٍ في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدّعوة ، لأنّه قد طوي هنا جواب قومه وسُؤَالُهم إياه آية كما دلّت عليه آيات سورة هود وسورة الشّعراء ، ففي سورة هود ( 61 ، 62 ) : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثمّ تُوبوا إليه إنّ ربّي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنتَ فِينا مرجُوّا قبل هذا } الآية . وفي سورة الشّعراء ( 153 155 ) : { قالوا إنّما أنت من المسحرين ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصّادقين قال هذه ناقة لها شرب } الآية .
فجملة : { قد جاءتكم بينة من ربكم } تعليل لجملة : { اعبدوا الله } ، أي اعبدوهُ وحده لأنّه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغتُ لكم ، وعلى انفراده بالتّصرف في المخلوقات .
وقوله : { هذه ناقة الله } يقتضي أن النّاقة كانت حاضرة عند قوله : { قد جاءتكم بينة من ربكم } لأنّها نفس الآية .
والبيّنة : الحجّة على صدق الدّعوى ، فهي ترادف الآية ، وقد عُبّر بها عن الآية في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفكِّينَ حتى تأتيهم البيّنة } [ البينة : 1 ] .
و { هذه } إشارة إلى النّاقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت النّاقة هي البيّنة كانت جملة : { هذه ناقة الله لكم آية } منزّلة من التي قبلها منزلة عطف البيان .
وقوله : { آية } حال من اسم الإشارة في قوله : { هذه ناقة الله } لأنّ اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، واقترانَه بحرف التّنبيه يقوي شبهه بالفعل ، فلذلك يكون عاملاً في الحال بالاتّفاق ، وتقدّم عند قوله : { ذلك نتلوه عليك من الآيات } في سورة آل عمران ( 58 ) ، وسنذكر قصّة في هذا عند تفسير قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في سورة هود ( 72 ) .
وأكّدت جملة : { قد جاءتكم بينة } ، وزادت على التّأكيد إفادةُ ما اقتضاه قوله { لكم } من التّخصيص وتثبيت أنّها آية ، وذلك معنى اللاّم ، أي هي آية مقنِعة لكم ومجعولة لأجلكم .
فقوله : { لكم } ظرف مستقرّ في موضع الحال من { آية } ، وأصله صفة فلمّا قُدم على موصوفه صار حالاً ، وتقديمه للاهتمام بأنّها كافية لهم على ما فيهم من عناد .
وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأنّ الله أمر بالإحسان إليها وعدم التّعرّض لها بسوء ، وعظَّم حرمتها ، كما يقال : الكعبة بيت الله ، أو لأنّها وُجدت بكيفية خارقة للعادة ، فلانتفاء ما الشانُ أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل : عيسى عليه السّلام كلمةُ الله .
وأمّا إضافة { أرض } إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أنّ للنّاقة حقّاً في الأكل من نبات الأرض لأنّ الأرض لله وتلك النّاقة من مخلوقاته فلها الحقّ في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها .
وقوله : { هذَا } مقدمةٌ لقوله : { ولا تمسوها بسوء } أي بسوء يعوّقها عن الرّعي إمّا بموت أو بجرح ، وإمّا لأنّهم لما كذّبوه وكذّبوا معجزته راموا منع النّاقة من الرّعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء النّاشىء عن الجهالة .
والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة .
وقد جعل الله سلامة تلك النّاقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستيصال للحكمة التي قدّمتُها آنفاً ، وأن ما أوصى الله به في شأنها شبيه بالحَرَم ، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدّلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تُنسب إليه تلك الحُرمة ، ولذلك قال لهم صالح : { فَذروها تأكلْ في أرض الله ولا تمسّوها بسوء } لأنّهم إذا مسّها أحد بسوء ، عن رضى من البَقيّة ، فقد دلُّوا على أنّهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله عليه السّلام .
وجُزم { تأكل } على أنّ أصله جواب الأمر بتقدير : إنْ تذروها تأكُل ، فالمعنى على الرّفع والاستعمالُ على الجزم ، كما في قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة } [ إبراهيم : 31 ] أي يقيمون وهو كثير في الكلام ، ويُشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التّوهم لوجود فِعل الطّلب قبل فعلٍ صالح للجزم ، ولعلّ منه قوله تعالى : { وأذّنْ في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا } [ الحج : 27 ] وانتصب قوله : { فيأخُذكم } في جواب النّهي لِيُعتبر الجواب للمنهي عنه لأنّ حرف النّهي لا أثر له : أي إن تمسُّوها بسوءٍ يأخذْكم عذاب .
وأنيط النّهي بالمس بالسّوء لأنّ المس يصدق على أقل اتّصال شيء بالجسم ، فكلّ ما ينالُها ممّا يراد منه السّوء فهو منهي عنه ، وذلك لأنّ الحيوان لا يسوؤه إلاّ ما فيه ألم لذاته ، لأنّه لا يفقه المعاني النّفسانيّه .
والباء في قوله : { بسوء } للملابسة ، وهي في موضع الحال من فاعل تَمسوها أي بقصد سوء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الله ثمود قوم صالح، فقال: {و} أرسلنا {وإلى ثمود أخاهم صالحا}، ليس بأخيهم في الدين، ولكن أخوهم في النسب، {قال يا قوم اعبدوا الله}... {ما لكم من إله غيره}، يقول: ليس لكم رب غيره، {قد جاءتكم بينة من ربكم}، يعني بالبينة الناقة، فقال: {هذه ناقة الله لكم آية}، لتعتبروا فتوحدوا ربكم، وكانت من غير نسل {فذروها تأكل في أرض الله}، يقول: خلوا عنها فلتأكل حيث شاءت، ولا تكلفكم مؤونة، {ولا تمسوها بسوء}، لا تصيبوها بعقر، {فيأخذكم}، يعني فيصيبكم {عذاب أليم} يعني وجيع في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحا... "قال يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَه غيرُهُ "يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوز أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما إليه أدعو من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالعبادة دون ما سواه وتصديقي على أني له رسول وبينتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهضبة دليلاً على نبوتي وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحد إلاّ الله. وإنما استشهد صالح فيما بلغني على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة لأنهم سألوه إياها آية ودلالة على حقيقة قوله...
وأما قوله:"وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ" فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقر ولا نحر، "فيأخذَكُمْ عذابٌ أليمٌ" يعني موجع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإلى ثمود أخاهم صالحا} قد ذكرنا أنه تحتمل الأخوّة وجوها أربعة: أخوّة النسب وأخوّة الجوهر والشكل على ما يقال: هذا أخو هذا، إذا كان من جوهره وشكله، وأخوّة المودة والخلّة، وأخوّة الدين. ثم يحتمل أن يكون ذكر من أخوّة صالح [أنه] كان أخاهم في النسب أو في الجوهر على ما ذكر في هود، ولا يحتمل أن يكون في المودة والدين. وأما أخوّة النسب فإنها تحتمل لما ذكرنا أن بني آدم كلهم إخوة، وإن [لم] يعدّوا؛ [هم من أولاده].
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} قد ذكرنا أن الرسل بأجمعهم، صلوات الله عليهم، إنما بعثوا ليدعوا الخلق إلى وحدانية الله والعبادة له؛ إذ لا معبود سواه، يستحق العبادة من الخلق.
{قد جاءتكم بيّنة من ربكم} قيل فيه بوجهين: قيل: {بيّنة من ربكم} ما ذكر من الناقة جعلها الله تعالى آية لرسالة صالح، وهو [قوله تعالى]: {هذه ناقة الله لكم آية} وقيل: {بيّنة من ربكم} آيات ظهرت لهم على لسان صالح، وجرت على يديه، تدل على رسالة صالح ونبوّته. لكنهم كابروا تلك الآيات في التكذيب، وعاندوا.
{هذه ناقة الله لكم آية} وجه تخصيص إضافة تلك الناقة إلى الله يحتمل وجوها، وإن كانت النّوق كلها لله في الحقيقة: أحدها: لما خصّت تلك بتذكير عبادته تعالى إياهم ووحدانيته تعظيما لها على ما خصّت المساجد بالإضافة إليه بقوله تعالى: {وأن المساجد لله} [الجن: 18] لما جعلت تلك البقاع لإقامة عبادة الله، خصّت بالإضافة إليه لما جعلها الله آية من آياته خارجة عن غيرها من النوق، مخالفة بنيتها بنية غيرها: إما [في] خلقة، وإما في ابتداء إحداثها وإنشائها، أو في أي شيء كان، فأضافها إليه لذلك، والله أعلم. ثم لا يجب أن يتكلف المعنى الذي له جعل الناقة آية؛ لأنه، جل وعلا، لم يبيّن لنا ذلك المعنى، فلو تكلّف ذكر ذلك فلعله يخرّج على خلاف ما كان في الكتب الماضية؛ فهذه القصص وأخبار الأمم الماضية إنما ذكرت في القرآن لتكون آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلو ذكرت على خلاف ما كان لهم في ذلك مقال. ويحتمل معنى الإضافة إليه وجها آخر؛ وهو أنه لم يجعل منافع هذه الناقة لهم، ولا جعل عليهم مؤنتها، بل أخبر أن {فذروها تأكل في أرض الله} جعل مؤنتها في ما يخرج من الأرض، وليس كسائر النوق التي جعل مؤنتها عليهم ومنافعها لهم بإزاء ما جعل عليهم من المؤن. فمعنى التخصيص بالإضافة إليه لما لم يشرك [في مؤنتها] أحدا ولا في منافعها، والله أعلم.
{فذروها تأكل في أرض الله} دلالة أن تلك الناقة كان غذاؤها مثل غذاء سائر النوق، وإن كانت خارجة عن طباع سائر النوق من جهة الآية ليعلم أنها، وإن كانت آية لرسالته ودلالة للنبوة فتشابهها لسائر النوق في هذه الجهة لا يخرجها عن حكم الآية. فعلى ذلك الرسل، وإن كانوا ساووا غيرهم من الناس في المطعم والغذاء، لا يمنع ذلك من أن يكونوا رسلا، والله أعلم بذلك.
{ولا تمسّوها بسوء} يحتمل: لا تتعرضوا لها قتلا ولا قطعا ولا عقرا لما ليست هي لكم {فيأخذكم عذاب أليم} وفي مواضع أخر [كقوله تعالى]: {فيأخذكم عذاب قريب} [هود: 64] فهذا يدل على أنه إنما أراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ لأنه قد يأخذهم عذاب الآخرة بكفرهم؛ فالوعيد بأخذ العذاب لهم في الدنيا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "قد جاءتكم بينة من ربكم "فالبينة: العلامة التي تفصل الحق من الباطل من جهة شهادتها به. والبيان هو إظهار المعنى للنفس الذي يفصله من غيره حتى يدركه على ما يقويه كما يظهر نقيضه، فهذا فرق بين البينة والبيان. وقوله "هذه ناقة الله لكم آية" فالناقة الأنثى من الجمال والأصل فيها التوطئة والتذليل من قولهم بعير منوق أي موطأ مذلل، وتنوق في العمل أي جوده كالموطأ المذلل... وإنما قال "ناقة الله" لأنه لم يكن لها مالك سواه تعالى. والآية هي البينة العجيبة بظهور الشهادة ولطف المنزلة. والآية والعبرة والدلالة والعلامة نظائر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..غاير الحقُّ -سبحانه- بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم في التوحيد؛ فالشرائع التي هي العبادات مختلفة، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد. ثم أخبر عن إمضاءِ سُنَّتِه تعالى بإرسال الرسل عليهم السلام، وإمهال أُمَمِهم ريثما ينظرون في معجزات الرسل. ثم أخبر عما دَرَجُوا عليه في مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسليةً للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله -فيما كان يقاسي من بلاء قومه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قيل: سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادي القرى {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ} آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتي. وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. ولكم: بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود؛ لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته...
{قد جاءتكم بينة من ربكم} وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة، لأن التقليد وحده لو كان كافيا لكانت تلك البينة ههنا لغوا، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ولا تمسّوها بسوء} نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال:"إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم" وقال [الإمام] أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم "وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم} قد علمنا من سنة القرآن وأساليبه في قصص الأنبياء مع أقوامهم أن المراد بها العبرة والموعظة ببيان سنن الله تعالى في البشر وهداية الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن حوادث الأمم وضوابط التاريخ مرتبة بحسب الزمان أو أنواع الأعمال.
وقوله:"من ربكم" للإعلام بأنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه عليه السلام، وكذلك سائر ما يؤيد الله تعالى به الرسل من خوارق العادات، فليعتبر بذلك الجاهلون الذين يظنون أن الخوارق مما يدخل في كسب الصالحين الذين هم دون الأنبياء ولاسيما الذين يسمونهم الأقطاب المتصرفين في الكون، ولو كانت كذلك لم تكن خوارق، ولا آيات من الله تعالى دالة على تصديق الرسل في دعوى النبوة، وعلى كمال اتباع من دونهم لهم فيما جاءوا به من الهداية، إذ كسب العباد ما زال يتفاوت تفاوتا عظيما بتفاوت قوى عضلهم وجوارحهم، وقوى عقولهم وأرواحهم وعزائمهم، وتفاوت علومهم ومعارفهم، ولذلك اشتبهت الآيات على كثير من الناس بالسحر والشعوذة، وما يكون في بعض الناس من التأثر لعلو الهمة وقوة الإرادة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... (قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية).. والسياق هنا، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة. وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بينة من ربهم، وأنها ناقة الله وفيها آية منه، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي. مما يجعلها بينة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.. ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن -وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...ذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم، فقد: {قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مرجُوّا قبل هذا أتَنْهَانا أن نعبد ما يَعْبُد آباؤُنا وإننا لفي شكّ ممَّا تدعُونا إليه مُريب} [هود: 62]. وتدلّ آيات القرآن وما فُسّرت به من القصص على أنّ صالحاً أجَّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية، وأنّهم تَارَكُوها ولم يُهيجوها زمناً طويلاً. فقد أشعرت مجادلتهم صالحاً في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر، وأنّ غُلواءهم في المكابرة أخذت تقصر، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوم هود، وبين جواب قوم صالح. ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم ولِيَزِنوا أمرهم، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحْنق على رسولهم، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ، والإمهال لهم أقطعُ لعذرهم، وأنهض بالحجّة عليهم، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراماً لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة،كما قال تعالى لنوح: {أنّه لم يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} [هود: 36].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
.. كان بعث صالح بعد هود، وكانت ثمود خلائف لعاد، قال الله تعالى:
{وإلى ثمود أخاهم صالحا}، أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، كما كان لعاد أخوهم هود، وذكر الأخوة في هذا المقام فيه إشارة إلى أنه واحد منهم قد ربط بينهم برباط الأخوة، وكذلك كان يبعث الله تعالى لكل أمة رسولا منهم، كما بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من أنفسهم.
قال صالح لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. هذه دعوة التوحيد، وهي دعوة النبيين أجمعين ودعوة الفطرة، ودعوة المنطق العقلي.
ولقد أردف دعوته إلى الله، بيان أنه مرسل إليهم من الله تعالى، ومعه البينة الدالة على إيمانه؛ ولذا قال لهم: {قد جاءتكم بينة من ربكم}، أي معجزة مبينة من ربكم دالة على رسالته، هذه البينة هي: ناقة آية لكم، أي دليل على الرسالة، ويظهر أنها كانت لها أوصاف خاصة تميزها عن غيرها، قال بعض الناس: إن الله تعالى خلقها من حجر صلد، ولكن لم يثبت ذلك بسند صحيح عمن بين القرآن للناس، ولم يرد بسند صحيح شيء عن أوصاف هذه الناقة، ولكنها على أي حال كانت مميزة عندهم معروفة بشخصها لديهم، ولذا قال لهم: {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}، أي: فتركوها تأكل.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (من الآية 73 سورة الأعراف): وكلمة "أخاهم "هنا تؤكد أن سيدنا صالحا كان مأنوسا به عند ثمود، ومعروف التاريخ لديهم، وسوابقه في القيم والأخلاق معروفهم لهم تماما وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود.