في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة ، ويروح فيه المتقون ناجين . ويبقى الظالمون فيه جاثين . . من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين ، ويعيرونهم بفقرهم ، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء :

وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات . قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ? . .

إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة ؛ والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد . وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان . لا أبهة ولا زينة ، ولا زخرف ، ولا فخامة . . هذه وتلك تتقابلان في هذه الأرض وتجتمعان !

وتقف الأولى بمغرياتها الفخمة الضخمة : تقف بمالها وجمالها . بسلطانها وجاهها . بالمصالح تحققها ، والمغانم توفرها ، وباللذائذ والمتاع . وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع ، تهزأ بالمال والمتاع ، وتسخر من الجاه والسلطان ؛ وتدعو الناس إليها ، لا باسم لذة تحققها ، ولا مصلحة توفرها ، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان . ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف ، عاطلة من كل زينة ، معتزة بعزة الله دون سواه . . لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار ، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئا في هذه الأرض ، إنما هو القرب من الله ، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب .

وهؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله - على عهد الرسول [ ص ] - فيقولون للمؤمنين الفقراء : ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ? )الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد ، أم الفقراء الذين يلتفون حوله . أيهم خير مقاما وأحسن ناديا ? النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة ، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين ? أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر ? وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب ? ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الاجتماعية البارزة ?

إنه منطق الأرض . منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان . وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء ، عاطلة من عوامل الإغراء . ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ؛ وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والزخرف ، ومن يطلب المال والمتاع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا} (73)

عطف على قوله { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم .

والتّلاوة : القراءة . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان } في البقرة ( 102 ) ، وقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } في أول الأنفال ( 2 ) . كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير ، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة ، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون : لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم ، فنحن في نعمة وأهل سيادة ، وأتباع محمّد من عامة الناس ، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا ، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه ، قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] ، وقال تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] . فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم . فالمراد بالآيات البيّنات : آيات القرآن ، ومعنى كونها بيّنات : أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة .

واللاّم في قوله { للّذين آمنوا } يجوز كونها للتّعليل ، أي قالوا لأجل الذين آمنوا ، أي من أجل شأنهم ، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم . ويجوز كونها متعلقة بفعل { قَالَ } لتعديته إلى متعلّقه ، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين .

والاستفهام في قولهم { أيُّ الفريقين } تقريريّ .

وقرأ من عدا ابن كثير { مَقاماً } بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام ، أطلق مجازاً على الحظ والرفعة ، كما في قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربّه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازاً في الظهور والمقدرة .

وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان ، وهو مستعمل في الكون في الدنيا . والمعنى : خيرٌ حياةً .