في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} (122)

111

ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين ؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه - [ ص ] - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام ، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد ، وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً ، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة ؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة ، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية . . ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء :

( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) . .

ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية ، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية : أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم ، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة .

والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري ، واختيار ابن جرير ، وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي ، لا يفقهه إلا من يتحرك به ؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ؛ ولا فقهوا فقههم ؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ ص ] - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .

ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن ، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة ، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم ، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس ، وتغليبه على الجاهلية ، بالحركة العملية .

والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !

إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية " يجددون " بها الفقه الإسلامي أو " يطورونه " - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد ، وردهم إلى العبودية للّه وحده ، بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ؛ ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !

إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده ، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده ، واستيحاء شريعته وحدها ، تحقيقاً لهذه الدينونة ، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية ، وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه ، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة ، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين ، يجيء فقههم للدين من تحركهم به ، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي ، يعيش بهذا الدين ، ويجاهد في سبيله ، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .

فأما اليوم . . " فماذا " . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ؛ والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?

لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه ، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أو " تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه ، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد ، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة ، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .

إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ؛ والمجتمع المسلم أنشأ " الفقه الإسلامي " . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ ، وليس " جاهزا " معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة ، ذات حجم معين ، وشكل معين ، وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة ، داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه ، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ؛ ومن ثم " يفصل " لها حكم مباشر على " قدها " . . فأما تلك الأحكام " الجاهزة " في بطون الكتب ؛ فقد " فصلت " من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها " جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ؛ وعلينا اليوم أن " نفصل " مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ؛ وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .

وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر ، اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ؛ ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ؛ وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار " تجديد الفقه الإسلامي " أو " تطويره " ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} (122)

كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه ، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو . وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها ، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً ، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين ، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه ، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه ، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان ، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلاً حتى تقلص ، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المُدن التي فتحوها ووكَلوا أمر الدولة إليهم .

وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقاً من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يُذكر عقبها نَفْر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام .

ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ التوبة : 120 ] الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .

وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشىء عن قوله : { مالكم إذا قيل لكم انفروا } [ التوبة : 38 ] ثم عن قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا } [ التوبة : 120 ] الخ . ومعنى { أن يتخلفوا } هو أن لا ينفروا ، فناسب أن يذكر بعده { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .

والمراد بالنفير في قوله : { لينفروا } وقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم .

فضمير { ليتفقهوا في الدين } يجوز أن يعود على قوله : { المؤمنون } ، أي ليتفقه المؤمنون .

والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر ، كما اقتضاه قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، فهو عام مراد به الخصوص .

ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهومٍ من الكلام من قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين ، فأعيد الضمير على ( طائفة ) بصيغة الجمع نظراً إلى معنى طائفة ، كقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] على تأويل اقتتل جمعهم .

ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله : { لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } نفْراً آخر غير النفر في سبيل الله ، وهو النفر للتفقه في الدين ، وتكون إعادةُ فعل ( ينفروا ) و ( نَفَر ) من الاستخدام بقرينة قوله : { ليتفقهوا في الدين } فيكون الضمير في قوله : { ليتفقهوا } عائداً إلى { طائفة } ويكون قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } تمهيداً لقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } .

وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين . والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة .

والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي ، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي ، أي كونه نهياً جازماً يقتضي التحريم . وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجباً لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجباً لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضاً ، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه ، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو . وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل ( انفروا ) ، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير ( انفروا ) .

ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوباً على الكفاية ، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب . وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عدداً من الذين يبقون للتفقه والإنذار ، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر ، وأن البقية باقية على الأصل ، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو ، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع ، وأن ذلك سواء . ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة .

ولولا : حرف تحْضيض .

والفرقة : الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن ؛ فالقبيلة فرقة ، وأهل البلاد الواحدة فرقة .

والطائفة : الجماعة ، ولا تتقيد بعدد . وتقدم عند قوله : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .

وتنكير { طائفة } مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية . وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية .

والتفقه : تكلف الفقاهة ، وهي مشتقة من فقه ( بكسر القاف ) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ . فالفقه أخص من العلم ، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله : { لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] ، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته ، فقاهة فهو فقيه .

ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه ، أي الفهم في الدين . وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح « مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين » ، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم .

وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد .

والإنذار : الإخبار بما يتوقع منه شر . والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة . ومنه النذير . وتقدم في قوله تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) ، فالإنذار هو الموعظة ، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم ، لأن التخلية مقدمة على التحْلية ، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده . ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطإ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين .

وحذف مفعول يحذرون } للتعميم ، أي يحذرون ما يُحذر ، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات . واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير ، وقد علمت أنه يفيد الأمرين .