في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (104)

104

( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا . وقولوا : انظرنا ، واسمعوا ، وللكافرين عذاب أليم . ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل . ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، إن الله بما تعملون بصير . .

يتجه الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى ( الذين آمنوا )يناديهم بالصفة التي تميزهم ، والتي تربطهم بربهم ونبيهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية .

وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي [ ص ] : ( راعنا )- من الرعاية والنظر - وأن يقولوا بدلا منها مرادفها في اللغة العربية : ( أنظرنا ) . . ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة ، ويحذرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا وقولوا انظرنا . واسمعوا . وللكافرين عذاب أليم ) .

وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة( راعنا ) . . أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ ، وهم يوجهونه للنبي [ ص ] حتى يؤدي معنى آخر مشتقا من الرعونة . فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي [ ص ] مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه !

واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ، وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (104)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }( 104 )

وقرأ جمهور الناس «راعِنا » من المراعاة بمعنى فاعلنا( {[1048]} ) أي أرعنا نرعك ، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه ، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره ، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة ، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل ، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم : وقالت طائفة : هي لغة كانت الأنصار تقولها ، فقالها رفاعة( {[1049]} ) بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول : اسمع غير مسمع ، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير ، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة . فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة ، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل ، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً ؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً( {[1050]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعناً » بالتنوين( {[1051]} ) ، وهذه من معنى الجهل ، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة( {[1052]} ) لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور ، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا » دون تنوين ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ، وهي شاذة ، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة ، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة .

و { انظُرنا } مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا ، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر ، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال( {[1053]} ) ، وهذا هو معنى { راعنا } ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود ، وقرأ الأعمش وغيره «أنظِرنا » بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك .

ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر ، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة( {[1054]} ) ، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً ، وهو المؤلم ، { واسمعوا } معطوف على { قولوا } لا على معمولها .


[1048]:- اللام الساكنة عبارة عن الياء المحذوفة للأمر.
[1049]:- أحد اليهود.
[1050]:- ذلك لأن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين، ولذلك عرفوا النسخ بقولهم: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، والمباح بحكم الأصل والعادة الجارية قبل الشرع لا يعتبر حكما شرعا.
[1051]:- هي قراءة شاذة لا يؤخذ بها، وكذلك قراءة (راعوناً) بالتنوين، وإذا نهينا عن راعنا بدن تنوين فكيف براعناً و راعوناً بالتنوين.
[1052]:- سد الذريعة باب من أبواب الشريعة، فكلمة (راعناً) كان المسلمون يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المراعاة من دون أن يقصد بها المساواة، فأخذها اليهود كرفاعة ابن زيد وخاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم بقصد النقيصة، فنهى الله المؤمنين عن هذا القول وإن كان مباحا سدا للباب على الملاعين في الألفاظ التي تحتمل السب والنقص، فالقضية من باب سد الذريعة لا من باب نسخ فعل سابق.
[1053]:- أي نظر البصر والبصرة، قال أهل اللغة: نظر يتعدى إلى المبصرات بنفسه وإلى المعاني بفي، فعلى الأول معناه: تفقدنا بنظرك، وعلى الثاني معناه: انظر في أمرنا، و يقال: نظر بمعنى انتظر، ويؤيد هذا المعنى قراءة الأعمش: أنظرنا بقطع الهمزة، أي أخرنا وأمهلنا حتى نفهم منك ونتلقى عنك.
[1054]:- وهو سماع القلب ليذعن للحق، ويطيع أوامره ونواهيه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (104)

يتعين في مثل هذه الآية{[154]} تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها ، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب ، وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبيء صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبيء صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سراً وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب ، وقيل معناها لا سمعت ، دعاء فقال بعضهم لبعض : كنا نسب محمداً سرّاً فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي ، فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم .

ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه ، أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه ، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجهه النفسي إلى المسحور ، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم . ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى ، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله ، كل ذلك راجعاً إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى ، كان هذا شبيهاً ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر .

وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه . وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو { يا أيها الناس } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتباً عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب .

و { راعنا } أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعى مثل رعى قال طرفة : * خذول تراعى ربربا بخميلة * وأطلق مجازاً على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعى ذمامه ، فقول المسلمين للنبيء صلى الله عليه وسلم ( راعنا ) هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا .

وقوله : { وقولوا انظرنا } أبدلهم بقولهم : { راعنا } كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبيء صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإنَّ نَظَرَ في الحقيقة بمعنى حَرَسَ وصار مجازاً على تدبير المصالح ، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر ، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله : { انظرنا } بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار .

وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور .

وقوله تعالى : { واسمعوا } أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أوالنظر وقيل : أراد من ( اسمعوا ) امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر .

وقوله : { وللكافرين عذاب أليم } التعريف للعهد . والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم : فلهم عذاب أليم ، والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم . وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله .


[154]:- أي مثلها من الآيات التي نزلت في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها إيجازا واستغناء بعلم المخاطبين بها يوم نزولها بالسبب الذي أوجب نزولها، فإذا لم ينقل السبب لمن يحضره لم يعلم المراد منها.