في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (28)

16

وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا ، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل ؛ وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها إلى يوم الدين :

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، والله غفور رحيم . لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) . .

ونداؤهم على هذا النحو : يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم ، واستحياء لمعنى الإيمان ، وتذكير برعايته حق رعايته ؛ واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب . وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله . فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص . . معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار .

اتقوا الله وآمنوا برسوله . . ( يؤتكم كفلين من رحمته ) . . أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب . فرحمة الله لا تتجزأ ، ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها . ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض . .

( ويجعل لكم نورا تمشون به ) . وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه ، وتؤمن حق الإيمان برسوله . هبة تنير تلك القلوب فتشرق ، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز ، ومن وراء الأشكال والمظاهر ؛ فلا تتخبط ، ولا تلتوي بها الطريق . . ( نورا تمشون به ) . .

( ويغفر لكم . والله غفور رحيم ) . . . فالإنسان إنسان مهما وهب من النور . إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق . إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله . . ( والله غفور رحيم ) . .

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) . لتنالوا كفلين من رحمة الله . ويكون لكم ذلك النور تمشون به . وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (28)

وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } اختلف الناس في المخاطب بهذا ، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :

«ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي » ، الحديث{[10990]} وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } ، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه ، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به .

وقوله : { كفلين } أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه ، قال أبو موسى الأشعري : { كفلين } ضعفين بلسان الحبشة ، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار : كم كان التضعيف للحسنات فيكم ؟ فقال ثلاثمائة وخمسون ، فقال عمر : الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط ، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين ، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً ، قال الله تعالى : «هل نقصتكم من أجركم شيئاً ؟ ، قالوا : لا ، قال : فإنه فضلي أوتيه من أشاء »{[10991]} . والكفل : الحظ والنصيب . والنور : هنا إما أن يكون وعداً بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة ، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله .


[10990]:هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحيهما، والنسائي، وابن ماجه، وهو عن أبي موسى، وقد ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالصحة، ولفظه كما جاء فيه:(ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله تعالى وحق سيده، فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران).
[10991]:أخرجه البخاري في المواقيت، وأحمد في مسنده(2-129)، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ألا إنما بقاؤكم فيما رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ألا إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا، فأُعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأُعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا على غروب الشمس فأُعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا، لِم أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا منهم؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (28)

الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما وقع { يا أيها الذين آمنوا } هنا عقب قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } [ الحديد : 27 ] ، أي من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، احتمل قوله : { يا أيها الذين آمنوا } أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني : كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام . واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ ، أعني : من حصل منه إيمان ، وهو هنا من آمن بعيسى . والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَاننِ ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى ، أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم ، ويكون قوله : { وآمنوا } مستعملاً في الدوام على الإِيمان كقوله : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } في سورة [ النساء : 136 ] ، ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتماللِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن .

ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر : أن لهم مثل أجرَي من آمن من أهل الكتاب . ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي في صحيح البخاري } الذي فيه « مثل المسلمين واليهود والنصار كمثَل رجل استأجر أَجراء يعملون له ، فعملت اليهود إلى نصف النهار ، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين ، قال فيه : واستكمَلُوا أجر الفريقين كليهما » أي استكملوا مثل أجر الفريقين ، أي أخذوا ضعف كل فريق .

وتقوى الله تتعلق بالأعمال وبالاعتقاد ، وبعلم الشريعة ( وقد استدل أصحابنا على وجوب الاجتهاد للمتأهل إليه بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] . )

وقوله : { اتقوا الله } أمر لهم بما هو وسيلة ومقدمة للمقصود وهو الأمر بقوله : { وآمنوا برسوله } .

ورتب على هذا الأمر ما هو جواب شرط محذوف وهو جملة { يؤتكم كفلين } الخ المجزوم في جواب الأمر ، أي يؤتكم جزاءً في الآخرة وجزاء في الدنيا فجزاء الآخرة قوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } وقوله : { ويغفر لكم } ، وجزاء الدنيا قوله : { ويجعل لكم نوراً تمشون به } .

والكِفل : بكسر الكاف وسكون الفاء : النصيب .

وأصله : الأجر المضاعف ، وهو معرب من الحبشية كما قاله أبو موسى الأشعري ، أي يؤتكم أجرين عظيمين ، وكل أجر منهما هو ضِعف الآخر مماثل له فلذلك ثُني كفلين كما يقال : زوج ، لأحد المتقاربين ، وهذا مثل قوله تعالى : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } [ الأحزاب : 68 ] وقوله : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يوتَوْن أجورهم مرتيْن : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وآمن بي ، واتبعني ، وصدقني فله أجران » الحديث .

ويتعلق { من رحمته } ب { يؤتكم } ، و ( من ) ابتدائية مجازياً ، أي ذلك من رحمة الله بكم ، وهذا في جانب النصارى معناه لإِيمانهم بمحمد وإيمانهم بعيسى ، أي من فضل الله وإكرامه وإلا فإن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجب عليهم كإيمانهم بعيسى وهو متمم للإِيمان بعيسى وإنما ضوعف أجرهم لما في النفوس من التعلق بما تدين به فيعسر عليها تركه ، وأما في جانب المسلمين فهو إكرام لهم لئلا يفوقهم بعض من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى .

ويجوز أن يكون { من رحمته } صفةً ل { كفلين } وتكون ( من ) بيانية ، والكلام على حذف مضاف ، تقديره : من أثر رحمته ، وهو ثواب الجنة ونعيمها .

وقوله : { ويجعل لكم نوراً تمشون به } تمثيل لحالة القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نوراً يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه . والمعنى : ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به ، والباء للاستعانة مثل : كتبت بالقلم .

والمعنى : ويُيسّر لكم دلالة تهتدون بها إلى الحق .

وجميع أجزاء هذا التمثيل صالحة لتكون استعارات مفردة ، وهذا أبلغ أحوال التمثيل ، وقد عرف في القرآن تشبيه الهدى بالنور ، والضلال بالظلمة ، والبرهان بالطريق ، وإعماللِ النظر بالمشي ، وشاع ذلك بعد القرآن في كلام أدباء العربية .

والمغفرة : جزاء على امتثالهم ما أمروا به ، أي يغفر لكم ما فرط منكم من الكفر والضلال .