في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ} (8)

لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر ؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .

ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء .

ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .

وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور .

وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .

والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .

وهنالك اعتبار آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته ؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية . وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .

وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .

لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ} (8)

وقوله تعالى : { وما جعلناهم جسداً } قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى ، ومنه قوله تعالى : { عجلاً جسداً }{[8200]} [ الأعراف : 148 ] . فمعنى هذا ما جعلناهم أجساداً لا تتغذى ، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي . والمعنى ما جعلناهم أجساداً وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو الملائكة ، ف { جعلناهم جسداً } على التأويل الأول منفي ، وعلى الثاني موجب ، والنفي واقع على صفته . وقوله تعالى : { لا يأكلون الطعام } كناية عن الحدث ، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا .


[8200]:من الآية (88) من سورة (طه).