ثم يجيء المقطع الأخير في السورة ، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن ، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع . فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين . وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين . وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد . ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب :
( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ، فنقبوا في البلاد هل من محيص ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب . فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب . يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير . يوم تشقق الأرض عنهم سراعا . ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون ، وما أنت عليهم بجبار ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) . .
ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة ، إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع . بهذا التركيز وبهذه السرعة . ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة . وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة !
قال من قبل : ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود ، وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد ) . .
وقال هنا : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ، فنقبوا في البلاد . هل من محيص )?
الحقيقة التي يشير إليها هي هي . ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى . ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد ، وتنقب عن أسباب الحياة ، وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد ، ولا مفر منها ولا فكاك : ف ( هل من محيص )? . .
قوله عز وجل : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد } ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق . { هل من محيص } فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وقيل : هل من محيص مفر من الموت ؟ فلم يجدوا فيه إنذار لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفراً عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .
قوله تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة . " فنقبوا في البلاد " أي ساروا فيها طلبا للمهرب . وقيل : أثَّرُوا في البلاد ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : ضربوا وطافوا . وقال النضر بن شميل : دَوَّروا . وقال قتادة : طوفوا . وقال المؤرج تباعدوا ، ومنه قول امرئ القيس :
وقد نَقَّبْتُ في الآفاق حتى *** رضيتُ من الغنيمة بالإيَابِ
ثم قيل : طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات ، وهل وجدوا من الموت محيصا ؟ . وقيل : طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت . قال الحرث بن حلزة :
نَقَّبُوا في البلاد من حَذَرِ المو *** ت وجالُوا في الأرض كلَّ مَجَالِ
وقرأ الحسن وأبو العالية " فنقبوا " بفتح القاف وتخفيفها . والنقب هو الخرق والدخول في الشيء . وقيل : النقب الطريق في الجبل ، وكذلك المنقب والمنقبة ، عن ابن السكيت . ونقب الجدار نقبا ، واسم تلك النقبة نقب أيضا ، وجمع النقب النُّقوب ، أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها . وقيل : أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب . وقرأ السلمي يحيى بن يعمر " فنقبوا " بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد ، أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا " هل من " الموت " محيص " ومهرب ، ذكره الثعلبي . وحكى القشيري " فنقبوا " بكسر القاف مع التخفيف ، أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم . الجوهري : ونقب البعير بالكسر إذا رَقَّتْ أَخْفَافُه ، وأنقب الرجل ، إذا نقب بعيره ، ونقب الخف الملبوس أي تخرق . والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حَيْصا وحُيُوصا ومَحِيصا ومُحَاصا وحَيَصَانا ، أي عدل وحاد . يقال : ما عنه محيص أي محيد ومهرب . والانحياص مثله ؛ يقال للأولياء : حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا .
ولما ذكر سبحانه أول السورة تكذيبهم بالقدرة على اعترافهم بما يكذبهم في ذلك التكذيب ، ثم سلى وهدد بتكذيب الأمم السابقة ، وذكر قدرته عليهم ، وأتبعه الدلالة على كمال قدرته إلى أن ختم بالإشارة إلى أن قدرته لا نهاية لها ، ولا تحصر بحدّ ولا تحصى بعدّ ، رداً على أهل العناد وبدعة الاتحاد في قولهم " ليس في الإمكان أبدع مما كان " عطف على ما-{[61237]} قدرته بعد { فحق وعيد } من إهلاك تلك الأمم مما هو أعم منه بشموله جميع الزمان الماضي وأدل على شمول القدرة ، فقال : { وكم أهلكنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم ، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال : { قبلهم } وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله : { من قرن } أي جيل هم في غاية القوة ، وزاد في بيان القوة فقال : { هم } أي أولئك القرون بظواهرهم وبواطنهم { أشد منهم } أي من قريش { بطشاً } أي قوة وأخذاً لما يريدونه بالعنف{[61238]} والسطوة والشدّة ، وحذف الجار هنا يدل على أن كل من كان قبل قريش كانوا أقوى منهم ، وإثباته في ص يدل على أن المذكورين بالإهلاك هناك{[61239]} مع الاتصاف بالنداء المذكور بعض المهلكين لا كلهم . ولما أخبر سبحانه بأشديتهم سبب عنه قوله : { فنقبوا } أي أوقعوا النقب { في البلاد } بأن فتحو فيها الأبواب الحسية والمعنوية وخرقوا في أرجائها ما لم يقدر غيرهم عليه وبالغوا في السير في النقاب ، وهي طرق الجبال والطرق الضيقة فضلاً عن الواسعة وما في السهول ، بعقولهم الواسعة وآرائهم النافذة وطبائعهم القوية ، وبحثوا مع ذلك عن الأخبار ، وأخبروا غيرهم بما لم يصل إليهم ، وكان كل منهم نقاباً في ذلك أي علامة فيه فصارت له به مناقب أو مفاخر .
ولما كان التقدير : ولم يسلموا مع كثربة تنقيبهم وشدته من إهلاكنا بغوائل الزمان ونوازل الحدثان ، توجه سؤال كل سامع على ما في ذلك من العجائب والشدة والهول والمخاوف سؤال تنبيه للذاهل الغافل ، وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل ، بقوله : { هل من محيص * } أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق ، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا .
قوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص 36 إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد 37 ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } .
ذلك تحذير من الله يخوف به المشركين مما حل بالمكذبين من قبلهم أولئك الذين جحدوا الرسالات وكذبوا باليوم الآخر فأتاهم العذاب والتدمير . وهو قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا } يعني أهلكنا من قبل هذه الأمة كثيرا من الضالين السابقين وقد كانوا أعظم قوة وبطشا من هؤلاء { فنقبوا في البلاد } أي طافوا البلاد مدبرين هاربين يلتمسون المفر والملجأ ليقيهم من العقاب { هل من محيص } أي انظروا هل كان لهم من مهرب من الموت أو العقاب .