ونمضي مع نوح في جهاده النبيل الطويل . فنجده يأخذ بقومه إلى آيات الله في أنفسهم وفي الكون من حولهم ، وهو يعجب من استهتارهم وسوء أدبهم مع الله ، وينكر عليهم ذلك الإستهتار :
( ما لكم لا ترجون لله وقارا ? وقد خلقكم أطوارا ? ) . .
والأطوار التي يخاطب بها قوم نوح في ذلك الزمان لا بد أن تكون أمرا يدركونه ، أو أن يكون أحد مدلولاتها مما يملك اولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه ، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم وقع مؤثر ، يقودهم إلى الاستجابة . والذي عليه أكثر المفسرين أنها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل . . وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم . لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار . وهذا أحد مدلولات هذه الآية . ويمكن أن يكون مدلولها ما يقوله علم الأجنة . من أن الجنين في أول أمره يشبه حيوان الخلية الواحدة ، ثم بعد فترة من الحمل يمثل الجنين شبه الحيوان المتعدد الخلايا . ثم يأخذ شكل حيوان مائي . ثم شكل حيوان ثديي . ثم شكل المخلوق الإنساني . . وهذا أبعد عن إدراك قوم نوح . فقد كشف هذا حديثا جدا . وقد يكون هذا هو مدلول قوله تعالى في موضع آخر بعد ذكر أطوار الجنين : ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين . . كما أن هذا النص وذاك قد تكون لهما مدلولات أخرى لم تتكشف للعلم بعد . . ولا نقيدهما . .
وعلى أية حال فقد وجه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم ، وأنكر عليهم أن يكون الله خلقهم أطوارا ، ثم هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيرا للجليل الذي خلقهم . . وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق !
{ ما لكم لا ترجون لله وقاراً } قال ابن عباس ومجاهد : لا ترون له عظمة . وقال سعيد بن جبير : ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته . وقال الكلبي : لا تخافون الله حق عظمته . والرجاء : بمعنى الخوف ، و{ الوقار } : العظمة ، اسم من التوقير وهو التعظيم . قال الحسن : لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة . قال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيراً .
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ، أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة . أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا . وقال الوالبي والعوفي عنه : مالكم لا تعلمون لله عظمة . وقال ابن عباس أيضا ومجاهد : مالكم لا ترون لله عظمة . وعن مجاهد والضحاك : مالكم لا تبالون لله عظمة . قال قطرب : هذه لغة حجازية . وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال . والوقار : العظمة . والتوقير : التعظيم . وقال قتادة : مالكم لا ترجون لله عاقبة ، كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان . وقال ابن كيسان : مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا . وقال ابن زيد : مالكم لا تؤدون لله طاعة . وقال الحسن : مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة . وقيل : مالكم لا توحدون الله ؛ لأن من عظمه فقد وحده . وقيل : إن الوقار الثبات لله عز وجل ، ومنه قوله تعالى : " وقرن في بيوتكن{[15386]} " [ الأحزاب : 33 ] أي اثبتن . ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه ، قاله ابن بحر .
{ ما لكم لا ترجون لله وقارا } فيه أربع تأويلات :
أحدها : أن الوقار بمعنى : التوقير والكرامة فالمعنى : ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه قال ذلك الزمخشري وقوله : { لله } على هذا بيان للموقر ولو تأخر لكان صفة لوقارا . والثاني : أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت والمعنى : ما لكم لا ترجون لله وقارا متثبتين حتى تتمكنون من النظر بوقاركم وقوله : { لله } على هذا مفعول دخلت عليه اللام كقولك ضربت لزيد وإعراب وقارا على هذا مصدر في موضع الحال .
الثالث : أن الرجاء هنا بمعنى : الخوف والوقار بمعنى : العظمة والسلطان فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ولله على هذا صفة للوقار في المعنى .
الرابع : أن الرجاء بمعنى : الخوف والوقار بمعنى : الاستقرار من قولك وقر بالمكان إذا استقر فيه والمعنى : ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار .
ولما كان من رجا ملكاً عمل بما يرضيه . ومن خافة تجنب ما يسخطه ، نبههم على ذلك بالإشارة إلى الجلال الموجب للتوقير والجمال بالإحسان إلى الخلق ، مصرحاً لهم بالترغيب ملوحاً إلى الترهيب ، فقال مستأنفاً في جواب من يقول منهم : هل بقي شيء من قولك ؟ : { ما } أي أيّ شيء يحصل { لكم } حال كونكم { لا ترجون } أي تكونون في وقت من الأوقات على حال تؤملون بها ، وبين فاعل الوقار ومبدعه بتقديمه ، فإنه لو أخره لكان ل " وقاراً " فقال : { لله } أي الملك الذي له الأمر كله { وقاراً * } أي ثواباً يوقركم فيه ولو قل ، فإن قليله أكثر من كثير غيره ، ولا تخافون له إهانة بالعقاب بأن تعلموا أنه لا بد من أن يحاسبكم بعد البعث فيثيب الطائع ويعاقب العاصي ، كما هي عادة كل أحد مع من تحت يده ، فتوقروا رسله بتصديقهم فتؤمنوا وتعملوا ، فإن من أراد من أحد أنه يوقره وقره وعظمه ليجازيه على ذلك ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وذلك إنما يكون بمعرفة الله بما له من الجلال والجمال ، والخلق إنما تفاضلوا بالمعرفة بالله ، لا بالأعمال ، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه الناس بشيء وقر في صدره ، فإن بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال ، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ، ولا تنازع له اختياراً ، وتعظم أمره ونهيه ، بعدم المعارضة بترخيص جاف أو تشديد غال أو حمل على توهم{[68710]} الانقياد ، وتعظم حكمه{[68711]} بأن لا تبغي{[68712]} له عوجاً ولا تدافعه بعلم ، ولا ينبغي له غرض{[68713]} وعلة ، ولأجل أن المطلوب تحصيل الأعمال{[68714]} التي هي أسباب ظاهرية ، عبر بالرجاء ليسرهم بأن أعمالهم مؤثرة ، وعبر بالطمع في غير هذه الآية تنبيهاً{[68715]} على أنه لا سبب في الحقيقة إلا رحمة الله لحال دعا إلى ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.