( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا . وقولوا : انظرنا ، واسمعوا ، وللكافرين عذاب أليم . ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل . ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، إن الله بما تعملون بصير . .
يتجه الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى ( الذين آمنوا )يناديهم بالصفة التي تميزهم ، والتي تربطهم بربهم ونبيهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية .
وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي [ ص ] : ( راعنا )- من الرعاية والنظر - وأن يقولوا بدلا منها مرادفها في اللغة العربية : ( أنظرنا ) . . ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة ، ويحذرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا وقولوا انظرنا . واسمعوا . وللكافرين عذاب أليم ) .
وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة( راعنا ) . . أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ ، وهم يوجهونه للنبي [ ص ] حتى يؤدي معنى آخر مشتقا من الرعونة . فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي [ ص ] مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه !
واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ، وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } الرعي حفظ الغير لمصلحته ، وكان المسلمون يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام راعنا أي راقبنا وتأن بنا فيما تلقننا حتى نفهمه ، وسمع اليهود فافترصوه وخاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن ، أو سبه بالكلمة العبرانية التي كانوا يتسابون بها وهي راعينا ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ولا يقبل التلبيس ، وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا . أو انتظرنا من نظره إذا انتظره . وقرئ أنظرنا من الإنظار أي أمهلنا لنحفظ . وقرئ راعونا على لفظ الجمع للتوقير ، وراعنا بالتنوين أي قولا ذا رعن نسبة إلى الرعن وهو الهوج ، لما شابه قولهم راعينا وتسبب للسب . { واسمعوا } وأحسنوا الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه .
{ وللكافرين عذاب أليم } يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وسبوه .
يتعين في مثل هذه الآية{[154]} تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها ، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب ، وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبيء صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبيء صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سراً وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب ، وقيل معناها لا سمعت ، دعاء فقال بعضهم لبعض : كنا نسب محمداً سرّاً فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي ، فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم .
ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه ، أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه ، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجهه النفسي إلى المسحور ، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم . ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى ، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله ، كل ذلك راجعاً إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى ، كان هذا شبيهاً ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر .
وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه . وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو { يا أيها الناس } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتباً عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب .
و { راعنا } أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعى مثل رعى قال طرفة : * خذول تراعى ربربا بخميلة * وأطلق مجازاً على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعى ذمامه ، فقول المسلمين للنبيء صلى الله عليه وسلم ( راعنا ) هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا .
وقوله : { وقولوا انظرنا } أبدلهم بقولهم : { راعنا } كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبيء صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإنَّ نَظَرَ في الحقيقة بمعنى حَرَسَ وصار مجازاً على تدبير المصالح ، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر ، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله : { انظرنا } بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار .
وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور .
وقوله تعالى : { واسمعوا } أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أوالنظر وقيل : أراد من ( اسمعوا ) امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر .
وقوله : { وللكافرين عذاب أليم } التعريف للعهد . والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم : فلهم عذاب أليم ، والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم . وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.