( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) . .
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة . . مولاهم الذي أنشأهم ، والذي أطلقهم للحياة ما شاء . . في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط . . ثم ردهم إليه عندما شاء ؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب :
( ألا له الحكم ، وهو أسرع الحاسبين ) . .
فهو وحده يحكم ، وهو وحده يحاسب . وهو لا يبطى ء في الحكم ، ولا يمهل في الجزاء . . ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري . فهو ليس متروكا ولو إلى مهلة في الحساب !
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب ، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم - في هذه الأرض - في أمر العباد . .
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة ، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم ، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه ؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس . .
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله ؛ فعلام يحاسبون في الآخرة ؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ؛ ويتحاكمون إليها ؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ؛ ولا يتحاكمون إليها ؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد . وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ، ويقيموا معاملاتهم - كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم - وفق شريعة الله في الدنيا ، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله . وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله - سبحانه - إلها في الأرض ؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة . وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله - أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر ، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وفي المعاملات والارتباطات - والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء . .
والضمير في { ردوا } عائد على المتقدم ذكرهم ، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام برد الكل ، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله { عليكم } تقريباً للموعظة من نفوس السامعين ، و { مولاهم } لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الرزّق والنصرة والمحاسبة والملك وغير ذلك ، وقوله { الحق } نعت ل { مولاهم } ، ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش «الحقَّ » بالنصب ، وهو على المدح ، ويصح على المصدر ، { ألا له الحكم } ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع ، «الحكم » تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد و { أسرع الحاسبين } متوجه على أن الله عز وجل حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب غيره ، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال واحدة ؟ قال : كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا .
الضمير في قوله : { رُدّوا } عائد إلى { أحد } باعتبار تنكيره الصادق بكلّ أحد ، أي ثمّ يُردّ المتوفَّوْن إلى الله . والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة ، أي ردّوا إلى حكمه من نعيم وعذاب ، فليس في الضمير التفات .
والمولى هنا بمعنى السيد ، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد .
و { الحقّ } بالجرّ صفة ل { مولاهم } ، لما في { مولاهم } من معنى مالكهم ، أي مالكهم الحقّ الذي لا يشوب مِلكه باطلٌ يُوهن ملكه . وأصل الحقّ أنَّه الأمر الثابت فإن كلّ ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالاً تفاوتاً ، وذلك يُوهن المِلك ويضعف حقّيّته .
وجملة : { ألا لَهُ الحكمُ وهو أسرع الحاسبين } تذييل ولذلك ابتدىء بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر . والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع .
وقدّم المجرور في قوله { له الحكم } للاختصاص ، أي له لا لغيره ، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إمَّا حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره ، وإمَّا إضافي للردّ على المشركين ، أي ليس لأصنامكم حكم معه ، وإن كان المراد من الحكم الحساب ، أي الحكم المعهود يوم القيامة ، فالقصر حقيقي . وربَّما ترجَّح هذا الاحتمال بقوله عقبه : { وهو أسرع الحاسبين } أي ألاَ له الحساب ، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخَّر جزاؤه .
وهذا يتضمَّن وعداً ووعيداً لأنَّه لمَّا أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدّمة وكان المخاطبون فريقين : فريق صالح وفريق كافر ، وذكر أنَّهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة ؛ فالصالحون لا يحبّون المهلة والكافرون بعكس حالهم ، فعُجِّلت المسرّة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله : { وهو أسرع الحاسبين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.