في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (137)

121

بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق .

وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها : حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ! ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .

( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) .

لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟ !

والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .

والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي :

عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .

وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدىمنهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .

( قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) . .

إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .

إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !

( قد خلت من قبلكم سنن ) . .

وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .

( فسيروا في الأرض ) . .

فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .

( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . .

وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة : إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (137)

{ قد خلت من قبلكم سنن } وقائع سنها الله في الأمم المكذبة كقوله تعالى ؛ { وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل } وقيل أمم قال :

ما عاين الناس من فضل كفضلكمو *** ولا رأوا مثله في سالف السنن { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (137)

الخطاب بقوله تعالى : { قد خلت } للمؤمنين والمعنى : لا يذهب بكم ان ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين » وقديماً أدال الله المكذبين على المؤمنين ، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك ، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء ، وقال النقاش : الخطاب ب { قد خلت } للكفار .

قال الفقيه القاضي أبو محمد : وذلك قلق ، و { خلت } معناه : مضت وسلفت ، قال الزجّاج : التقدير أهل سنن ، و «السنن » : الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك ، وسنة الإنسان : الشيء الذي يعمله ويواليه ، ومن ذلك قول خلد الهذلي ، لأبي ذؤيب :

فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّة أَنْتَ سِرْتَها . . . فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها{[3550]}

وقال سليمان بن قتة :

وإنَّ الأُلى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ . . . تأسَّوْا فسَنُّوا للكرام التأسِّيَا{[3551]}

وقال لبيد :

مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباَؤُهُمْ . . . وَلكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإِمَامُهَا{[3552]}

وقال ابن زيد : { قد خلت من قبلكم سنن } معناه : أمثال .

قال الفقيه الإمام : هذا تفسير لا يخص اللفظة ، وقال تعالى : { فسيروا } وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين ، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره ، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل ، وقوله : { فانظروا } ، هو عند الجمهور من نظر العين ، وقال قوم : هو بالفكر{[3553]} .


[3550]:- السنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة، والسيرة: الطريقة: يقول: أنت جعلتها سائرة في الناس.
[3551]:- هو سليمان بن قتة منسوب إلى أمه، وكان شاعرا يحمل عنه الحديث وهو مولى لتيم قريش. "المعارف لابن قتيبة: 258" والألى: اسم موصول، والطف بالفتح: موضع قرب الكوفة كانت به وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما، والمراد بآل هاشم من كان مع الحسين من أهل بيته. تأسوا: تعزوا فسنوا للكرام التأسيا، أي: بينوه وأوضحوا طريقته. "تعليق الكامل".
[3552]:- يقول: هو من قوم سنّت لهم أسلافهم كسب رغائب المعالي واغتنامها، ولكل قوم سنة وإمام سنة يؤتم به فيها.
[3553]:- والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لـ (انظروا)، و(كيف) في موضع نصب خبر (كان)