في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

17

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

{ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعا " أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا " . وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله . وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة ، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيا متضرعا ، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه ، فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته ، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد إليه الملك ، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك ، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه ، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه : إن أخي له خصومة ، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا بشيء غير الحق ، فقال سليمان عليه السلام : أفعل ، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنياً ، وذلك أن سليمان عليه السلام كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك ، توقيراً لاسم الله تعالى ، فكان يضعه عند امرأة من نسائه ، ففعل ذلك يوماً ، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس . وقيل غير هذا ما اختصرناه لعدم الصحة ، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك سليمان ، وبقي فيه أربعين يوماً ، وطرح خاتم سليمان في البحر ، وجعل يعبث في بني إسرائيل ، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله ، ومكنه الله تعالى من جميع الملك .

قال مجاهد : إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن ، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فاراً على وجهه منكراً ، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه ، وأدركه جوع وفاقة فمر يوماً بامرأة تغسل حوتاً فسألها منه لجوعه ، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين ، فجعل يفتح أجوافها ، وإذا خاتمه في جوف أحدهما ، فعاد إليه ملكه ، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم بدعوته ، وفي صخر الجني . فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة ، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة ، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها .

واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فقال الجمهور : هو الجني المذكور ، سماه { جسداً } لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان ولبس به . قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى . وقالت فرقة : بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت . وقالت فرقة : بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه . وقال قوم : مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح ، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية و { أناب } معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه ، ومعنى هذا من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها .