ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله [ ص ] من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، أو سلما في السماء ، فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون ) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فأتهم بآية !
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه
( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين ) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
{ وإن كان كبر عليك } عظم وشق . { إعراضهم } عنك وعن الإيمان بما جئت به . { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية ، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية ، وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلما ، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل ، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته ، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة . { فلا تكونن من الجاهلين } بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة .
وقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } الآية ، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به ، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين ، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون ، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه ، وله ذلك كله بحق ملكه { فلا تكونن من الجاهلين } في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أسلوب معنى الآية ، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و { كبر إعراضهم } خبرها ، ويصح أن يكون { إعراضهم } هو اسم كان ويقدر في { كبر } ضمير وتكون { كبر } في موضع الخبر ، والأول من الوجهين أقيس ، والنفق : السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع{[4900]} ، والسلم :الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى ، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم ، ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل } : [ البسيط ]
لا يَحْزُنُ المَرْء أحْجاء البلادِ ولا . . . تُبْنَى له في السماواتِ السَّلاليمُ{[4901]}
و { تأتيهم بآية } أي بعلامة ، ويريد إما في فعلك ذلك ، أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء ، وإما أن { تأتيهم بالآية } من احدى الجهتين ، وحذف جواب الشرط قبل في قوله { إن استطعت } إيجاز لفهم السامع به ، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم ، و { لجمعهم } يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين ، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم ، و[ الهدى ] : الإرشاد ، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر ، وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه ، تعالى عن قولهم ، و { من الجاهلين } يحتمل في أن لا يعلم أن الله { لو شاء لجمعهم } ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده ، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به ، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { فلا تكونن من الجاهلين } وبين قوله لنوح عليه السلام { إني أعظك أن تكون من الجاهلين }{[4902]} وقد تقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، قال مكي والمهدي : والخطاب بقوله { فلا تكونن من الجاهلين } للنبي عليه السلام والمراد به أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : ُوِّقر نوح لسنه وشيبته ، وقال قوم : جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل المعاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب .
قال القاضي أبو محمد : والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما ، وبين أن الأمر الذي نهي عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدراً وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.