وكذبوا بالآيات وبشهادتها . كذبوا اتباعا لأهوائهم لا استنادا إلى حجة ، ولا ارتكانا إلى دليل ، ولا تدبرا للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود . .
( وكل أمر مستقر ) . . فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير . وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب . فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار ، لا على الهوى المتقلب ، والمزاج المتغير ؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض . . كل شيء في موضعه وفي زمانه ، وكل أمر في مكانه وفي إبانه . والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل شيء : في دورة الأفلاك ، وفي سنن الحياة . وفي أطوار النبات والحيوان . وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد . لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها . والتي لا تخضع للأهواء ! وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم . . إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء !
{ وكذبوا واتبعوا أهواءهم } وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره ، وذكرهما بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة . { وكل أمر مستقر } منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة ، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر ، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر ، وكل معطوف على الساعة .
{ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ } : التكذيب واتباع الهوى قريبان ؛ فإِذا حَصَل اتباعُ الهوى فمِنْ شُؤْمِه يحصل التكذيب ؛ لأنَّ اللَّهَ يُلَبِّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد .
أما اتباع الرضا فمقرونٌ بالتصديق ؛ لأنَّ اللَّهَ ببركاتِ اتباع الحقِّ يفتح عينَ البصيرة فيحصل التصديقِ .
وكلُّ امرئ جَرَتْ له القِسْمةُ والتقدير فلا محالةَ . يستقر له حصولُ ما قُسِمَ وقدِّر له .
{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } : يستقر عملُ المؤمنِ فتُوجَبُ له الجنة ، ويستقر عملُ الكافرِ فَيُجَّازَى .
أهواءهم : ما زيَّنه لهم الشيطان من الوساوس والأوهام .
وكل أمر مستقرّ : وكل أمر لابد وأن يستقر إلى غاية ، وينتهي إلى نهاية يستقرّ عليها .
3- { وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } .
كذَّب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصدقوا القرآن ، ولم يعترفوا بإعجازه ، أو بمعجزة انشقاق القمر ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل ، وكل أمر من الأمور ينتهي إلى غاية يستقر عليها لا محالة ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
إنّ الخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقرّ بأهل الشر ، وكل أمر مستقر بأهله .
أهواءهم : ما زينه لهم الشيطانُ من الوساوس والأوهام .
مستقر : منتهٍ إلى غاية ينتهي إليها .
بذلك كذّبوا بالحق إذ جاءهم { واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } فهو منتهٍ إلى غاية يستقر عليها .
إن هذا الكون يا محمد يسير وفق قوانينَ منتظِمة محدّدة مستقرة . وإن أمرك أيها الرسول ، سينتهي إلى الاستقرار بالنصر في الدنيا والفوزِ بالجنّة في الآخرة .
قوله تعالى : { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } أي : كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله عز وجل ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل . { وكل أمر مستقر } قال الكلبي : لكل أمر حقيقة ، ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وأما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : كل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، والشر مستقر بأهل الشر . وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار . وقيل : يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب . وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : كل ما قدر كائن واقع لا محالة . وقرأ أبو جعفر مستقر بجر الراء ، ولا وجه له .
قوله : { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } يعني كذب المشركون ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحدوا ما رأوه من الآيات الظاهرة الباهرة بعد معاينتهم انشقاق القمر فلقتين . واتبعوا الضلال والباطل مما دعتهم إليه أهواؤهم الجانحة السقيمة .
قوله : { وكل أمر مستقر } أي كل أمر واقع لا محالة ، أو صائر إلى غاية يستقر عليها من خير أو شر ، أو كل أمر منته إلى غاية ، فالخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقر بأهل الشر . كل مبتدأ ، ومستقر خبره .