وهكذا صدقت رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتحقق وعد الله . ثم كان الفتح في العام الذي يليه . وظهر دين الله في مكة . ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد . ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .
فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية " أندونيسيا " . . وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . . ( وكفى بالله شهيدا ) . .
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !
ولما أخبر بهذه الأمور الجليلة الدقيقة المبنية على إحاطة العلم ، عللها سبحانه وبين الصدق فيها بقوله تعالى : { هو } أي وحده { الذي أرسل رسوله{[60505]} } أي الذي{[60506]} لا رسول أحق منه بإضافته إليه - صلى الله عليه وسلم { بالهدى{[60507]} } الكامل الذي يقتضي أن{[60508]} يستقيم به أكثر الناس ، ولو أنه أخبر بشيء يكون فيه أدنى مقال{[60509]} لم يكن الإرسال{[60510]} بالهدى { ودين الحق } أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع { ليظهره } أي دينه { على الدين كله } دين أهل مكة و-{[60511]}العرب عباد الأصنام ، الذي يقتضي إظهاره عليه{[60512]} دخوله إليها آمناً ، وإظهاره على من سواهم من أهل الأديان الباطلة بأيدي صحابته الأبرار والتابعين{[60513]} لهم بإحسان إظهاراً يتكامل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام مع الرفق بالخلق والرحمة لهم ، فلا يقتل إلا من لا صلاح له أصلاً ، وعلى قدر الجبروت يحصل القهر ، فلأجل ذلك هو يدبر أمره بمثل هذه الأمور التي توجب نصره وتعلي{[60514]} قدره مع الرفق بقومه وجميل الصنع لأتباعه ، فلا بد أن تروا من فتوح أكثر البلاد وقهر الملوك الشداد ما تعرفون به قدرة الله سبحانه وتعالى .
ولما كان في سياق إحاطة العلم ، وكان التقدير : شهد ربه سبحانه بتصديقه{[60515]} في كل ما قاله بإظهار المعجزات على يده ، بنى عليه قوله تعالى { وكفى بالله } أي الذي له الإحاطة بجميع صفات{[60516]} الكمال { شهيداً * } أي ذا رؤية وخبرة بطية كل شيء ودخلته لما له{[60517]} الغنى في أمره ، ولا شهيد في الحقيقة إلا هو سبحانه لأنه {[60518]}لا إحاطة وخبرة ورقبة{[60519]} إلا له سبحانه ، وهو يشهد بكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة خصوصاً وفي غيرها عموماً .
قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس مرشدا ومعلما ليهديهم سواء السبيل وليستنقذهم من ظلمة الباطل والضلال إلى نور الحق والهداية واليقين { ودين الحق } وهو الإسلام ، الدين الذي جاء بالحق وفيه من عظيم الأحكام والمعاني والعبر ، ومن حقائق العدل والخير والبر والفضل والرحمة ما تستقيم عليه حال البشرية في هذه الدنيا ، وما تنجو به يوم الحساب .
قوله : { ليظهره على الدين كله } أي ليعليه على سائر الأديان في الأرض وعلى الأمم والشعوب كافة . والله جل وعلا إنما يريد بذلك للبشرية الخير والأمن والهداية والسعادة . وهذه حقائق كبريات ليس لها وجود حقيقي معاين إلا في ظل الإسلام ، فإنه الدين السماوي الوحيد الذي يشيع في الدنيا المن والحق والعدل والرحمة ، ليكون الناس جميعا إخوانا مؤتلفين متوادين متعاونين . وذلك بما بني عليه الإسلام من قواعد عظيمة في غاية الكمال والجمال ، ترسخ في الأرض كل معاني الخير والصلاح والسعادة ، وتثير في النفس البشرية الإحساس الرهيف بالعطف والرأفة والإيثار وحب الآخرين .
والناس في ظل غير الإسلام لا يبرحهم الشقاء والتعس ولا تفارقهم المعضلات النفسية والاجتماعية ، الفردية منها والعامة ، وما ينشأ عن ذلك من مختلف الآلام والهموم والويلات وألوان المعاناة والأزمات وكل ذلك إنما يقع في معزل عن دين الإسلام . دين المودة والرحمة والبر والتعاون والإيثار . الدين الذي يمحو من النفس الكراهية والغلظة والأثرة ( الأنانية ) والتعصب . من أجل ذلك كتب الله أن يكون الإسلام ظاهرا ومهيمنا على الأديان وعلى الناس أجمعين ليكونوا بذلك سعداء آمنين راغدين غير ظالمين ولا مظلومين ، وقد حفتهم من الله الرحمة والبركة والطمأنينة وطيب المقام في الدنيا والآخرة .
قوله : { وكفى بالله شهيدا } الباء حرف جر زائد . و { شهيدا } منصوب على التمييز أو الحال . والتقدير : كفاكم الله شهيدا {[4274]} . والمعنى كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وتلك أكرم شهادة له بصحة نبوته وصدق ما جاء به . أو كفى الله شاهدا على أنه مظهر دينه على الأديان كافة{[4275]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.