في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} (8)

وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] ليكون رسولاً :

( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .

وما كان في هذا من غرابة . ولكنه كان الحسد . الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق .

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث ، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي من الليل في بيته . فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض . لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك ! قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ? فقال : ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه ! فقام عنه الأخنس وتركه . .

فهو الحسد كما نرى . يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال ! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع . وهو السر في قولة من كانوا يقولون :

( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .

وهم الذين كانوا يقولون : ( لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) . . يقصدون بالقريتين مكة والطائف ، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون ؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين ، كلما سمعوا أن نبياً جديداً قد أطل زمانه . والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله - على علم - نبيه محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين .

ويرد على تساؤلهم ذاك رداً تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد :

( بل هم في شك من ذكري . بل لما يذوقوا عذاب ) . .

إنهم يسألون : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ! ) . . وهم في شك من الذكر ذاته ، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله ؛ وإن كانوا يمارون في حقيقته ، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون .

ثم يضرب عن قولهم في الذكر ، وعن شكهم فيه ، ليستقبل بهم تهديداً بالعذاب ، ( بل لما يذوقوا عذاب ) . . وكأنما ليقول : إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب ؛ فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئاً ، لأنهم حينئذ سيعرفون !

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} (8)

ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه ، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه ، وسلطان يبطله ويهتكه ، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم ، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد ، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صلى الله عليه وسلم كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر ، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا : { أءنزل عليه } أي خاصة { الذكر } أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به ، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا : { من بيننا } ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً ، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة ، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم ، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام ، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم وسموه محدثاً ، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج .

ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال : { بل } أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد ، بل { هم في شك } أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم { من ذكري } أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد ، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك . وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم .

ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال : { بل } أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك . ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن ، وشدائد وفتن ، ربما : ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها ، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام ، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال : { لما يذوقوا } من أول أمرهم إلى الآن { عذاب * } أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق ، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم ، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره ! وإطباق أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية ، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب .