في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ} (17)

وعلى الضفة الأخرى يقف الناجون ، الذين خافوا هذا المصير المشؤوم :

والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى . فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله . وأولئك هم أولو الألباب . .

والطاغوت صياغة من الطغيان ؛ نحو ملكوت وعظموت ورحموت . تفيد المبالغة والضخامة . والطاغوت كل ما طغا وتجاوز الحد . والذين اجتنبوا عبادتها هم الذين اجتنبوا عبادة غير المعبود في أية صورة من صور العبادة . وهم الذين أنابوا إلى ربهم . وعادوا إليه ، ووقفوا في مقام العبودية له وحده .

هؤلاء ( لهم البشرى )صادرة إليهم من الملأ الأعلى . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يبلغها لهم بأمر الله : ( فبشر عباد ) . . إنها البشرى العلوية يحملها إليهم رسول كريم . وهذا وحده نعيم !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ} (17)

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي .

والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم ، ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن . فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

ثم قال : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي : يفهمونه ويعملون بما فيه ، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } [ الأعراف : 145 ] .

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، أي : ذوو العقول الصحيحة ، والفطَر المستقيمة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ} (17)

لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثُني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين . والجملة معطوفة على جملة { قُلْ إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم } [ غافر : 15 ] الآية .

والتعبير عن المؤمنين ب { الذين اجتنبوا الطاغوت } لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو { لهُمُ البشرى } ، وهذا مقابل قوله : { ذلك يُخوفُ الله به عِباده } [ الزمر : 16 ] .

والطاغوت : مصدر أو اسم مصدر طَغا على وزن فَعَلُوت بتحريك العين بوزن رَحموتٍ وملوكت . وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم : طغا طُغُوًّا مثل علوّ ، وقولهم : طغوان وطغيان . وظاهر « القاموس » أنه واوي ، وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واوُ زِنةِ فَعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتّى قلبها ألفاً حيث تحركت وانفتح ما قبلها فصار طاغوت بوزن فَلَعُوت بتحريك اللام وتاؤُه زائدة للمبالغة في المصدر .

ومن العلماء من جعل الطاغوت اسماً أعجمياً على وزن فَاعول مثل جالوت وطالوت وهارون ، وذكره في « الإِتقان » فيما وقع في القرآن من المعرّب وقال : إنه الكاهن بالحبشية . واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الألفاظ المعرَّبة الواقعة في القرآن ، وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة [ النساء : 51 ] .

وأُطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أوْ الظلم ، فأطلق على الصّنم ، وعلى جماعة الأصنام ، وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف . وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علماً بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل ، وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجرى عليه ضمير المؤنث في قوله : { أن يعْبُدُوهَا } باعتبار أنه جمع لغير العاقل ، وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } في سورة [ البقرة : 257 ] باعتبار أنه وقع خبراً عن الأولياء وهو جمع مذكر ، وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها . و { أن يعبُدُوها } بدل من { الطَّاغُوتَ } بدل اشتمال .

والإِنابة : التوبة وتقدمت في قوله : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } في سورة [ هود : 75 ] . والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية .

والبشرى : البشارة ، وهي الإِخبار بحصول نفع ، وتقدمت في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة [ يونس : 64 ] . والمراد بها هنا : البشرى بالجنة .

وفي تقديم المسند من قوله : { لهُمُ البشرى } إفادة القصر وهو مثل القصر في { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } .

وفرع على قوله : { لهُمُ البُشْرى } قوله : { فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه } وهم الذين اجتنبوا الطاغوت ، فعدل عن الإِتيان بضميرهم بأن يقال : فبشرهم ، إلى الإِظهار باسم العِباد مضاف إلى ضمير الله تعالى ، وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما : صفة العبودية لله ، أي عبودية التقرب ، وصفة استماع القول واتباع أحسنه .

وقرأ العشرة ما عدا السوسي رَاويَ أبي عمرو كلمة { عبادِ بكسر الدال دون ياء وهو تخفيف واجْتزاء بوجود الكسرة على الدال . وقرأها السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل وساكنة في الوقف ، ونقل عنه حذف الياء في حالة الوقف وهما وجهان صحيحان في العربية كما في « التسهيل » ، لكن اتفقت المصاحف على كتابة { عبادِ هنا بدون ياء بعد الدال وذلك يوهن قراءة السوسي إلاّ أن يتأول لها بأنها من قبيل الأداء .