في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (57)

55

هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم ، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم ، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم ، والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين ، مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع :

( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) . .

وإنه لتعبير عجيب ، يرسم صورة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد ، وانطلقوا من ضوابط الإنسان ، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً ، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .

إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة ، ولا بد له من قوة ، ولا بد له من سطوة ، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت ، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !

وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (57)

{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } أي : تغلبهم وتظفر بهم في حرب ، { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ } أي : نكل بهم ، قاله : ابن عباس ، والحسن البصري ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، وابن عيينة ،

ومعناه : غَلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء ، من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيُصنع{[13094]} بهم مثل ذلك .


[13094]:في ك: "فنصنع".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (57)

وفي « شرح الرضي على الحاجبية » ، عن بعض النحاة : لا يجيء ( إمّا ) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : { فإما ترين } [ مريم : 26 ] . وقال ابن عطية في قوله : { فإما تثقفنهم } دخلت النون مع إما : إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو .

وقلت : دخول نون التوكيد بعد ( إنْ ) المؤكَّدةِ بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :

إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا *** إنَّا كذلكِ ما تَحفى وننتعل

فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد .

والثقف : الظفَر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم .

والتشريدُ : التطريد والتفريق ، أي : فبعِّد بهم مَن خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .

وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] . وقد علم أنّ متعلّق تشريد { من خَلفهم } هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .

والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع ، ونظيره ( الوراء ) . في قول ضمّام بن ثعلبة : « وأنا رسول من ورائي » . وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم « فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا » ، والمعنى : فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية ، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ، لأنّهم استحقّوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين ، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .

وضمير الغيبة في { لعلهم يذكرون } راجع إلى { من } الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .

والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد ، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال ، ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .