وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح ؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح :
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا . .
( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) . . فعرضناه عليهم في صور شتى ، وأساليب متعددة ، ولفتات متنوعة ؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم ، وأرواحهم وأذهانهم . ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم ، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم . . ( ليذكروا ) . . فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر . والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم ، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها . . ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
ومهمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إذن ضخمة شاقة ، وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى ، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة . .
وقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي : أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى ، [ فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا ، والتي وراءها ]{[21550]} لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة .
قال ابن مسعود وابن عباس : ليس عام بأكثر مطرًا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم قرأ هذه الآية : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } .
أي : ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات{[21551]} . والعظام الرفات . أو : ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه .
وقال عُمَر مولى غُفْرَة{[21552]} : كان جبريل ، عليه السلام ، في موضع الجنائز ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب ؟ " قال : فقال جبريل : يا نبي الله ، هذا ملك السحاب فسله . فقال : تأتينا صَكاك مُخَتَّمة : اسق بلاد كذا وكذا ، كذا وكذا قطرة . رواه ابن حاتم ، وهو حديث مرسل .
وقوله : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } : قال عكرمة : يعني : الذين{[21553]} يقولون : مطرنا بنَوء كذا وكذا .
وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً ، على أثر سماء أصابتهم من الليل : " أتدرون ماذا قال ربكم " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن بالكوكب " {[21554]} .
والضمير في { صرفناه } قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء ، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد ، وقاله ابن مسعود ، وقوله على هذا التأويل { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة ، وقيل { كفوراً } على الإطلاق لما تركوا التذكر ، وقال ابن عباس الضمير في { صرفناه } للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك ، { وجاهدهم به } ، وعلى التأويل الأول الضمير في { به } يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه ، وقال ابن زيد يراد به الإِسلام ، وقرأ عكرمة «صرَفنا » بتخفيف الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذْكروا » بسكون الذال ، وقرأ الباقون «ليذكّروا » بشد الذال والكاف .
ضمير { صرفناه } عائد إلى { ماء طهوراً } . والتصريف : التغيير . والمراد هنا تغيير أحوال الماء ، أي مقاديره ومواقعه .
وتوكيد الجملة بلام القسم و ( قد ) لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكُروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم ، لأن كثيراً من الناس لا يقدُر قدرَ النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الربّ الواحد المختار في خلق الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية .
ولما كان التذكر شاملاً لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون ، جيء في التعليل بفعل { ليذكروا } ليكون علة لحالتي التصريف بينهم .
وقوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } تركيب جرى بمادّته وهيئته مجرى المَثَل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء ، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى ، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأنّ الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمورٌ وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكُفور ، وإن لم يكن هنالك عَرض ولا إباء ، ومنه قوله تعالى في سورة براءة : ( 32 ) { ويأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نورَه } ؛ ألاَ ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام . وشدّةُ الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يُستعمل في قوله تعالى في سورة الصّفّ : ( 8 ) : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } .
والكُفور : مصدر بمعنى الكفر . وتقدم نظيره في سورة الإسراء ، أي أبوا إلاّ الإشراك بالله وعدم التذكر .
وقرأ الجمهور { ليذّكّروا } بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاءُ وأصله ليتذكروا . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة ، أي ليذْكُروا ما هم عنه غافلون .
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزّل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القَطر ، فعن ابن عباس : ما عامٌ أقل مطراً من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء . وتلا هذه الآية . وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من سنة بأمطرَ من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صَرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار » اه . فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه . وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر ، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير .
وجوز فريق أن يكون ضمير { صرفناه } عائداً إلى غير مذكور معلوم في المقام مرادٍ به القرآن ؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره ، وتكرر في قوله : { إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [ الفرقان : 30 ] . وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء ، ولقوله بعده { وجاهدهم به جهاداً كبيراً } [ الفرقان : 52 ] .
وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور ، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذّكروا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.