في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ} (88)

71

واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه ، وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير ، وأن تكون قد بقيت فيهم بقية ، وأن يرجى لهم صلاح . اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه ، الذين يملكون المال والزينة ، تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين ، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال ، وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال ، وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب اللّه الدعاء :

( وقال موسى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم ، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال : قد أجيبت دعوتكما ، فاستقيما ، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )

( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ) . .

ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك ، وإما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها باللّه أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار ، وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل اللّه في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس .

ويطلب لوقف هذا الإضلال ، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء ، أن يطمس اللّه على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها ، بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب ، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها اللّه قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب ، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان ، لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل ، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ} (88)

هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى ، عليه السلام ، على فرعون وَمَلَئه ، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ، ظلما وعلوا وتكبرًا وعتوا ، قال : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً } أي : من أثاث الدنيا ومتاعها ، { وأموالا } أي : جزيلة كثيرة ، { فِي } هذه { الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } - بفتح الياء - أي : أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم ، كما قال تعالى : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

وقرأ آخرون : { لِيُضِلُّوا } بضم الياء ، أي : ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم{[14372]} واعتنائك بهم .

{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد : أي : أهلكها . وقال الضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت .

وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة .

وقال محمد بن كعب القُرَظي : اجعل{[14373]} سُكَّرهم حجارة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، عن أبي مَعْشَر ، حدثني محمد بن قيس : أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ } إلى قوله : { اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } إلى آخرها [ فقال له : عمر يا أبا حمزة{[14374]} أي شيء الطمس ؟ قال : عادت أموالهم كلها حجارة ]{[14375]} فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : ائتني بكيس . [ فجاءه بكيس ]{[14376]} فإذا فيه حمص وبيض ، قد قطع حول حجارة .

وقوله : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس : أي اطبع عليها ، { فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ }

وهذه الدعوة كانت من موسى ، عليه السلام ، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه ، الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح ، عليه السلام ، فقال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [ نوح : 26 ، 27 ] ؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، فيهم{[14377]} هذه الدعوة ، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون ، فقال تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا }

قال أبو العالية ، وأبو صالح ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس : دعا موسى وأمَّنَ هارون ، أي : قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون .

وقد يحتج بهذه الآية من يقول : " إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنزل منزلة{[14378]} قراءتها ؛ لأن موسى دعا وهارون أمن " .


[14372]:- في ت ، أ : "لهم".
[14373]:- في ت : "جعل".
[14374]:- في ت : "يا أبا جمرة".
[14375]:- زيادة من ت ، أ.
[14376]:- زيادة من ت ، أ.
[14377]:- في ت : "فيما".
[14378]:- في ت : "يتنزل منزلة".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ} (88)

وقوله تعالى { وقال موسى } الآية ، غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها ، و { آتيت } معناه أعطيت وملكت ، وتكرر قوله { ربنا } استغاثة كما يقول الداعي بالله ، وقوله { ليضلوا } يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجاً فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة ، كما قال { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزناً }{[6207]} والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا ، وروي عن الحسن أنه قال : هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك ، وفي تقرير الشنعة عليهم{[6208]} .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة : «ليَضلوا » بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه «ليُضلوا » بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم ، وقرأ الشعبي «ليِضلوا » بكسر الياء ، وقرأ الشعبي أيضاً وغير «اطمُس » بضم الميم ، وقرأت فرقة «اطمِس » بكسر الميم وهما لغتان ، وطمس يطمس ويطمُس ، قال أبو حاتم : وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة ، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]

من كل نضاخه الذفرى إذا عرفت*** عرضتها طامس الأعلام مجهول{[6209]}

وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة ، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد ، قاله مجاهد وغيره ، معناه أهلكها ودمرها ، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع ، وقوله { اشدد على قلوبهم } بمعنى : اطبع واختم عليهم بالكفر ، قاله مجاهد والضحاك ، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله { لا تذر على الأرض من الكافريرن دياراً }{[6210]} . وقوله { فلا يؤمنوا } مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفاً على قوله { ليضلوا } ، وقيل هو منصوب في جواب الأمر ، وقال الفراء والكسائي : هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر [ الأعشى ] : [ الطويل ]

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى*** ولا تلقني إلاَّ وأنفُكَ راغمُ{[6211]}

وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية ، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره ، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه{[6212]} ، قال ابن عباس : { العذاب } هنا الغرق ، وقرأ الناس «دعوتكما » ، وقرأ السدي والضحاك «دعواتكما » ، وروي عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وحينئذ كان الغرق{[6213]} .

قال القاضي أبو محمد : وأعلما أن دعاءهما صادف مقدوراً ، وهذا معنى إجابة الدعاء ، وقيل لهما { لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له ، وقوله { دعوتكما } ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى ، وروي أن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى ، قاله محمد بن كعب القرظي ، نسب الدعوة إليهما ، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال :

«قفا نبكي » . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6214]}

و نحو هذا .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء ، قال علي بن سليمان قول موسى : { ربنا } دال على أنهما دعوا معاً{[6215]}


[6207]:- من الآية (8) من سورة (القصص).
[6208]:- قال بعض النحويين: هذه اللام في [ليضلوا] وما أشبهها بتأويل الخفض، أي: آتيتهم ما آتيتهم لضلالهم، والعرب تجعل لام [كي] في معنى لام الخفض، ولام الخفض في معنى لام [كي] لتقارب المعنى، قال الله تعالى: {يحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر: سموت ولم تكن أهلا لتسموا ولكن المضيع قد يصاب.
[6209]:- النّضّاخة: كثيرة رشح العرق. والذّفرى: النُّقرة خلف أذن الناقة، أو العظم الشّاخص خلف الأذن، أو من لدن المقذّ إلى نصف القذال، وكلها أماكن قريبة من غُذّة العرق. وعُرضتها: همّتها، والأعلام: العلامات تكون في الطريق ليهتدي بها السائر في الصحراء كالأحجار والآبار والتلال ونحوها، وطامس الأعلام: الدارس منها. يقول: هذه الناقة كثيرة العرق لنشاطها في سيرها وإجهادها نفسها، وهي تعرف الطريق وتمضي فيه مُسرعة مجدّة- وإن طمست أعلامه وتغيرت- لكثرة ما سافرت فيه.
[6210]:- من الآية (26) من سورة(نوح).
[6211]:- البيت للأعشى، وهو من ميميته، التي يهجو بها يزيد بن مسهر الشيباني، ولذلك يقول قبله: يزيد يغض الطرف دوني كأنما زوى بين عينيه عليّ المحاجم يقال: زوى ما بين عينيه فانزوى بمعنى: جمعه فاجتمع، يقول: إن يزيد ينفر مني حين يلقاني، ويتجهم لي مقطبا وجهه كأنما وضعت بين عينيه المحاجم، وما أبالي أن يستمر غضبه عليّ وإعراضه عني وأن أكون شجا في حلقه.
[6212]:-وذلك حين أدركه الغرق فقال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} وأجيب بقول الله سبحانه: {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}.
[6213]:- جاءت هذه الجملة في إحدى النسخ بلفظ: "وحينئذ كان الغرق".
[6214]:- هذا أول البيت الذي افتتح به امرؤ القيس معلقته المشهورة، وفيه يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللّوى بين الدخول فحومل وقد خاطب الشاعر صاحبيه على عادة العرب في المخاطبة بالمثنى.
[6215]:- نقل أبو حيان في "البحر" أن ابن السميفع قرأ: {قد أجبت دعوتكما} خبرا عن الله تعالى، وبنصب"دعوة"، وأن الربيع قرأ: [دعوتيكما]، ثم قال" "وهذا يؤيد قول من قال: إن هارون دعا مع موسى، وقراءة. [دعوتيكما] تدل على أنه قرأ: {قد أجبت} على أنه فعل وفاعل". "البحر المحيط 5/187". وقال أبو الفتح في "المحتسب": "ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن: {قد أجيبت دعواتكما}، وهذه جمع دعوة، وبهذه القراءة تعلم أن قراءة الجماعة: [دعوتكما] يراد فيها بالواحد معنى الكثرة، وساغ ذلك لأن المصدر جنس، والأجناس يقع قليلها موقع كثيرها، وكثيرها موضع قليلها".