وعلى هذا المنهج ذاته ، يجري الأمر في فريضة الجهاد ، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق :
( كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ؛ وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟ !
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة ( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . ) . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين : أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام .
وقال الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد ، غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر ، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد .
قلت : ولهذا ثَبَت في الصحيح{[3759]} " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية " {[3760]} . وقال عليه السلام يوم الفتح : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونيَّة ، إذا استنفرتم فانفروا " {[3761]} .
وقوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أي : شديد عليكم ومشقة . وهو كذلك ، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع{[3762]} مشقة السفر ومجالدَة الأعداء .
ثم قال تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء ، والاستيلاء على بلادهم ، وأموالهم ، وذرَاريهم ، وأولادهم .
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وهذا عام في الأمور كلّها ، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا ، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة . ومن ذلك القُعُود عن القتال ، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم .
ثم قال تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ، وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 216 )
و { كتب } معناه فرض ، وقد تقدم مثله ، وهذا هو فرض الجهاد ، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل »( {[2007]} ) .
وقال عطاء بن أبي رباح : «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد ، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية » ، وقال جمهور الأمة : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام ، فهو حينئذ فرض عين( {[2008]} ) ، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوع . وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد . فقيل له : ذلك تطوع( {[2009]} ) وال { كُره } بضم الكاف الاسم ، وفتحها المصدر .
وقال قوم «الكَره » بفتح الكاف ما أُكره المرء عليه ، و «الكُره » ما كرهه هو( {[2010]} ) .
وقوله تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئاً } الآية( {[2011]} ) ، قال قوم { عسى } من الله واجبة( {[2012]} ) ، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة { وهو خير لكم } في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون ، ومن مات مات شهيداً ، { وعسى أن تحبوا } الدعة وترك القتال { وهو شر لكم } في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم ، وفي قوله تعالى { والله يعلم } الآية قوة أمر( {[2013]} ) .