فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته ، من الذين وقع عليهم هذا الإثم ، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين ، وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غَلاَّ شيئًا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور : " اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان " . ورُوي عن علي ، وأُبيّ ، والحسن البصري أنهم قرؤوها : { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } .
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . {[10517]}
وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : " من الذين استحق عليهم الأوَّلِين " . وقرأ الحسن : " من الذين استحق عليهم الأوَّلان " ، حكاه ابنُ جرير .
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن كنا قد كذبنا عليهما .
{ فإن عثر } فإن اطلع . { على أنهما استحقا إثما } أي فعلا ما أوجب إثما كتحريف . { فآخران } فشاهدان آخران . { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } من الذين جنى عليهم وهم الورثة . وقرأ حفص " استحق " على البناء للفاعل وهو الأوليان . { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي هما الأوليان أو خبر { آخران } أو مبتدأ خبره آخران ، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان . وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم " الأولين " على أنه صفة للذين ، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم . وقرئ " الأولين " على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان . { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } أصدق منها وأولى بأن تقبل . { وما اعتدينا } وما تجاوزنا فيها الحق . { إنا إذا لمن الظالمين } الواضعين الباطل موضع الحق ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا . ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته ، أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم ، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت ، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت ، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى . إذ روي أن تميما الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا } الآية ، فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما ، ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا : قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { فإن عثر } فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه . ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة .
قوله : { فإن عُثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران } الآية ، أي إن تبيَّنَ أنّهما كتما أو بدّلا وحنثا في يمينهما ، بطلت شهادتهما ، لأنّ قوله { فآخران يقومان مقامهما } فرع عن بطلان شهادتهما ، فحذف ما يعبّر عن بطلان شهادتهما إيجازاً كقوله : { اضرِبْ بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت .
ومعنى { عُثِر } اطُّلِع وتَبيّن ذلك ، وأصل فعل عَثَر أنّه مصادفة رِجْلِ الماشي جسماً ناتئاً في الأرض لم يترقّبه ولم يَحْذر منه فيختلّ به اندفاعُ مَشْيه ، فقد يسقط وقد يتزلزل . ومصدره العِثَار والعُثور ، ثم استعمل في الظَفَر بشيء لم يكن مترقّباً الظفَر به على سبيل الاستعارة . وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة ، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العِثار ، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر ، وهو العثور .
ومعنى { استَحقَّا إثماً } ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به ، فقد حقّ عليهما الإثم ، أي وقع عليهما ، فالسين والتاء للتأكيد . والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله : { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } . فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضاً لأنفسهما أو لغيرهما ، أو بأن يظهر أنّهما كتما الشهادة ، أي بعضها . وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت .
وقوله { فآخران } أي رجلان آخران ، لأنّ وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدّث عنه ، والمتحدث عنه هنا { اثنان } . فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية . ومعنى يقومان مقامهما ، أي يعوّضان تلك الشهادة . فإنّ المقام هو محلّ القيام ، ثم يراد به محلّ عمل مّا ، ولو لم يكن فيه قيام ، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محلّ يقوم فيه العامل ، وذلك في العمل المهمّ . قال تعالى : { إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري } [ يونس : 71 ] . فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية . و { من } في قوله : { من الذين استحقّ عليهم } تبعيضية ، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم .
والاستحقاق كون الشيء حقيقاً بشيء آخر ، فيتعدّى إلى المفعول بنفسه ، كقوله : { استحقّا إثماً } ، وهو الشيء المستحق . وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدّى الفعل إلى المحقوق ب { على } الدالّة على الاستعلا بمعنى اللزوم له وإن كره ، كأنّهم ضمّنوه معنى وجَب كقوله تعالى : { حقيق علي أن لا أقول على الله إلاّ الحق } [ الأعراف : 105 ] . ويقال : استحقّ زيد على عمرو كذا ، أي وجب لزيد حقّ على عمرو ، فأخذه منه .
وقرأ الجمهور { استُحقّ عليهم } بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله { استُحقّ عليهم هو مستحِقّ مّا ، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة ، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغَلَبَ وارثَ الموصي بذلك . فالذين استُحقّ عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم مالُه بوجه من وجوه الإرثِ فحُرموا بَعضه . وقوله { عليهم } قائم مقام نائب فاعل { استحقّ } .
وقوله : { الأوليان } تثنية أوْلَى ، وهو الأجدر والأحقّ ، أي الأجدران بقبول قولهما . فماصْدقه هو مَاصْدق { الآخران } ومرجعه إليه فيجوز ، أن يجعل خبراً عن { آخران } ، فإنّ { آخران } لمّا وصف بجملة { يقومان مقامهما } صحّ الابتداء به ، أي فشخصان آخران هما الأوْلَيَان بقبول قولهما دون الشاهدين المتّهمين .
وإنّما عرّف باللاّم لأنّه معهود للمخاطب ذهناً لأنّ السامع إذا سمع قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقَّا إثماً } ترقّب أن يعرف من هو الأولى بقبول قوله في هذا الشأن ، فقيل له : آخران هما الأوليان بها . ويجوز أن يكون { الأوليان } مبتدأ و { آخران يقومان } خبره . وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة ، لأنّ السامع يترقّب الحكم بعد قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً } فإنّ ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما ، فكيف يكون القضاء في ذلك ، فعجّل الجواب . ويجوز أن يكون بدلاً من { آخران } أو من الضمير في { يقومان } أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هما الأوليان . ونكتة التعريف هيَ هي على الوجوه كلّها .
وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ، { الأوّلين } بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدّم والمبتدأ به . فالذين استحقّ عليهم هم أولياء الموصي حيث استحقّ الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء ، أي الورثة لولا الوصية ، وهو مجرور نعت ( للذين استحقّ عليهم ) .
وقرأ حفص عن عاصم { استحَقّ } بصيغة البناء للفاعل فيكون { الأوليان } هو فاعل { استحقّ } ، وقوله { فيقسمان بالله } تفريع على قوله { يقومان مقامهما } .
ومعنى { لشهادتنا أحقّ من شهادتهما } أنّهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذيْن عثِر على أنّهما استحقّا إثماً . ومعنى { أحقّ } أنّها الحقّ ، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة .
وقوله { وما اعتدينا } توكيد للأحقّيّة ، لأنّ الأحقّيّة راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان ، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلاً واعتداء منهما على مال مبلّغي الوصية . والمعنى : وما اعتدينا على الشاهدين في اتّهامهما بإخفاء بعض التركة .
وقوله { إنّا إذن لمنَ الظالمين } أي لو اعتدينا لكنّا ظالمَين . والمقصود منه الإشعار بأنّهما متذكّران ما يترتّب على الاعتداء والظلم ، وفي ذلك زيادة وازع .
وقد تضمّن القسم على صدق خبرهما يميناً على إثبات حقّهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحقّ مع الشاهد العرفي ، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلّغان الوصية .
والكلام في « إذن » هنا مثل الكلام في قوله : { إنّا إذن لمن الآثمين } .
والمعنى أنّه إن اختلّت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحداً أم متعدّداً . وإنّما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها ، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء ، فإنّ ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما : عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة ، وكلاهما من بني سهم ، وهما مَوْليا بُديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام . فبعض المفسّرين يذكر أنهما مَوْليا بُديل .
وبعضهم يقول : إنّ مولاه هو عمرو بن العاصي . والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أنّ له ولاء من بديل ، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين . فإن كان صاحب الحقّ واحداً حلف وحده وإن كان أصحاب الحقّ جماعة حلفوا جميعاً واستحقّوا . ولم يقل أحد أنّه إن كان صاحب الحقّ واحداً يحلف معه من ليس بمستحقّ ، ولا إن كان صاحب الحقّ ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقّون كلّهم . فالاقتصار على اثنين في أيمان الأوليين ناظر إلى قصّة سبب النزول ، فتكون الآية على هذا خاصّة بتلك القضية . ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم . وهذا القول يقتضي أنّ الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بُديل بن أبي مريم . وذلك ظاهر بعض روايات الخبر ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنّ الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذٍ يتعيّن أن تكون تشريعاً لأمثال تلك القضية ممّا يحدث في المستقبل ، فيتعيّن المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن .
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضَر إلاّ واحداً من المسلمين ، أو واحداً من غير المسلمين ، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم . وكلّ ذلك يجري على أحكامه المعروفة في الأحكام كلّها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر .