( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . ) . .
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشويا ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب . ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية . فهذه إحداها .
قال : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } قال قتادة : وقرأ ابن مسعود : [ " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ]{[18318]} ، ولهذا قال : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي : طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا }
{ قال أرأيت إذ أوينا } أرأيت ما دهاني إذ أوينا . { إلى الصخرة } يعني الصخرة التي رقد عندها موسى . وقيل هي الصخرة التي دون نهر الزيت . { فإني نسيت الحوت } فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه . { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن { أن أذكره } بدل من الضمير ، وقرئ " أن أذكركه " . وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه ، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها ، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وإنجاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة ، وإنما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بإحداهما عن الآخر يعد من نقصان . { واتخذ سبيله في البحر عجبا } سبيلا عجبا وهو كونه كالسرب أو اتخاذا عجبا ، والمفعول الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه ، أو موسى في جوابه عجبا تعجبا من تلك الحال . وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذِكْرُه: قال فتى موسى لموسى حين قال له: آتِنا غَداءنا لِنَطْعَمَ:"أرَأيْتَ إذا أوَيْنا إلى الصّخرة فإني نَسِيتُ الحوتَ" هنالك "وَما أنْسانيهُ إلاّ الشّيْطانُ "يقول: وما أنساني الحوتَ إلا الشيطانُ أنْ أذْكُرَهُ... معنى الكلام: وما أنساني أنْ أَذْكُرَ الحوتَ إلا الشيطانُ... واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً يَعْجَبُ منه... عن ابن عباس "واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا" قال: يعني: كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... في الآية وجوه من الغرائب؛ أحدهما: أن يلزم الإنسان طلب العلم واقتباسه؛ إذ كان به وبالناس حاجة إليه، وإن بعدت الشقة، ونأى الموضع حين قال موسى: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا} (الكهف: 60).
والثاني: أن لا بأس لاثنين أن يسافرا؛ إذ لا كل واحد واثنين يكونان شيطانين على ما ذكر في بعض الأخبار أن الواحد شيطان، والاثنين شيطانان، ولكن واحدا دون واحد، واثنين دون اثنين.
والثالث: أنه لا يسافر إلا بالزاد، إذ تزود موسى والفتى بالحوت الذي ذكر حين خرجا إلى حيث أمر موسى أن يخرج في مجمع البحرين. فأما أهل التأويل فإنهم قالوا جميعا: إنه أُمِرَ موسى أن يأتي الخضر ليتعلم منه العلم، ولكن ليس في القرآن ذكر للخضر، إنما فيه ذكر عبد من عباده حين قال: {فوجدا عبدا من عبادنا} (الكهف: 65).
والرابع: أن الثنيا إنما يلزم في كل فعل مستقبل مما يشك فيه، ويرتاب. فأما ما كان سبيل معرفته الوحي واليقين فإنه لا يستثني فيه: حين قال موسى لفتاه: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} (الكهف: 60) قال ذلك من غير ثنيا لأنه عز و جل أمره أن يأتيه. ولا يحتمل أن يؤمر بالإتيان في مكان، ثم هو يشك أنه لعله لا يأتيه. لذلك قطع القول فيه. وكذلك قول ذلك العبد الصالح لموسى: {إنك لن تستطيع معي صبرا} (الكهف: 67) قطع القول فيه من غير ثنيا لأنه علم بالوحي أنه لا يصبر على ما يرى منه. وأما موسى فإنه قد استثنى في ما وعد أنه يصبر لأنه أضاف إلى حادث من الأوقات على الشك منه أن يصبر، أو لا يصبر، وعلى الارتياب على اليقين. فقال: {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا} (الكهف: 69) مما ذكرنا. والخامس: أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم، ويتعلم منه، فرأى منه مناكير ومظالم تلزمه أن يفارقه، ولا يتعلم منه العلم كصنيع موسى بصاحبه لما رأى من خرق السفينة وقتل الغلام وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر، وإن كان ما فعل، هو فعل الأمر، كره موسى صحبته، وندم على ذلك أشد الندامة، حتى جعله على علم من ذلك كله. فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه، ولا يأخذ من علمه، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: {ستجدني إن شاء الله صابرا} دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام، لأن موسى ابتدأ به. وكذلك قوله: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} (البقرة: 70) فإذا تركه في أول كلامه، أو نسي، يستثني في آخره، فيعمل عمله في دفع الخُلف في الوعد والكذب. وعلى هذا تَأَوَّلَ بعض الناس قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} (الكهف: 23) أي استثن في آخره إذا نسيت في أول كلامك، والله أعلم. ثم هذه القصص والأنباء التي ذُكِرَت لرسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سؤال كان منهم على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص، أو على غير سؤال. ولكن كانت في كتبهم، فذكرت له ليُعْلَم أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَرَأَيْتَ} بمعنى أَخبِرْني. فإن قلت: ما وجهُ التئامِ هذا الكلام، فإنّ كل واحدٍ من {أَرَأَيْتَ} و {إِذْ أَوَيْنَا} و {فَإِنّي نَسِيتُ الحوتَ} لا مُتعلَّقَ له؟ قلت: لمّا طَلب موسى عليه السلام الحوت، ذَكَر يوشعُ ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدَهِشَ وطَفِقَ يَسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيتَ ما دَهاني إذ أوَيْنا إلى الصخرة؟ فإني نَسِيتُ الحوتَ، فحُذف ذلك...
{عَجَبًا}... مِثل {سَرَباً} يعني: واتَّخَذ سبيلَه سبيلاً عَجَباً، وهو كونه شبيهَ السَّرَبِ...
وقيل: إن {عَجَبًا} حكايةٌ لتعجُّب موسى عليه السلام، وليس بذاك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما كان عن أمره؟ فقيل: {قال} لموسى عليه السلام معجباً له: {أرءيت} ما دهاني؟ {إذ أوينا إلى الصخرة} التي بمجمع البحرين {فإني} أي بسبب أني {نسيت الحوت} أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك؛ ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى: {وما أنسانيه} مع كونه عجيباً {إلا الشيطان} بوساوسه. ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً، ذكر نسيانه، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى: {أن أذكره} لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر {واتخذ سبيله} أي طريقه الذي ذهب فيه {في البحر عجباً} وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان، وقوله تعالى {إنما سلطانه على الذين يتولونه} [النحل:100] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه، وإمساك الماء عن مدخله...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} أي التجَأْنا إليها... وذكرُ الإِوَاءِ إليها مع أن المذكور فيما سَبق مرتين بلوغُ مجمعِ البحرين لزيادة تعيينِ محلِّ الحادثة، فإن المجمَع محلٌ متّسعٌ لا يمكن تحقيقُ المراد المذكور بنسبة الحادثةِ إليه ولتمهيد العُذر فإن الإِواءَ إليها والنومَ عندها مما يؤدي إلى النسيان عادةً... والرؤيةُ مستعارةٌ للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملةِ...
{فإني نَسِيتُ الحوتَ}... تأكيدٌ للتعجيب وتربيةٌ لاستعظام المنسيِّ، وإيقاعُ النسيان على اسم الحوتِ دون ضمير الغَداءِ مع أنه المأمورُ بإتيانه للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نِسيان المسافرِ زادَه في المنزل وأنّ ما شاهَده ليس من قبيل الأحوالِ المتعلِّقة بالغَداء من حيث هو غَداءٌ وطعامٌ، بل من حيث هو حوتٌ كسائر الحِيتان مع زيادةٍ أي نسِيتُ أن أذكر لك أمرَه وما شاهدتُ منه من الأمور العجيبة... {أَنْ أَذْكُرَهُ}... وقُرئ أن أذكّره، وإيثارُ أن أَذْكُرَه على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفسُ الحدثِ عند وقوعه...
{واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البحر عَجَبًا} بيانٌ لطَرَفٍ من أمر الحوتِ منبئ عن طرف آخرَ منه،... كأنه قيل: حَيِيَ واضطَرَب ووقَع في البحر واتَّخَذ سبيلَه فيه سبيلاً عجباً...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{نَسِيتُ الحوتَ} أي نَسِيتُ حِفْظَه وافتقادَه، أي فانفَلَت في البحر...
{أَنْ أَذْكُرَهُ}... الذِّكْرُ هنا ذِكْرُ اللسانِ...
ووَجْهُ حصْرِه إسنادَ هذا الإنساء إلى الشيطان أنّ ما حَصل له من نسيانِ أنْ يخبر موسى بتلك الحادثة نسيانٌ ليس من شأنه أن يقع في زمنٍ قريبٍ مع شدة الاهتمام بالأمر المَنسيّ وشدةِ عنايته بإخبار نبيئه به. ومع كون المَنسيّ أعجوبةً شأنُها أن لا تُنسى يَتعيَّن أن الشيطان ألْهاهُ بأشياء عن أن يتذكّر ذلك الحادث العجيب وعَلم يوشعُ أن الشيطان يَسوءه التقاءُ هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بَثّ العلوم الصالحة فهو يَصْرِفُ عنها ولو بتأخيرِ وقوعها طمعاً في حدوث العوائق...