إنه لم يسجد شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت . ولم يقل له : عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين ، كما يقول المتملقون للطواغيت ! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك ، خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد ؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من الموت وبلادا من الخراب ، ومجتمعا من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته ، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه :
( قال : اجعلني على خزائن الأرض . إني حفيظ عليم ) . .
والأزمة القادمة وسنوالرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها . وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء . ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها ، وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة :
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض . . إنما كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة ؛ وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات ، لا زرع فيها ولا ضرع . فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه . فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة . إنما هي تبعة يهرب منها الرجال ، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم ، والجوع كافر ، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون .
استطراد لتعليل طلبه الحكم وهنا تعرض شبهة . . أليس في قول يوسف - عليه السلام - : ( اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم ) . . أمران محظوران في النظام الإسلامي :
أولهما : طلب التولية ، وهو محظور بنص قول الرسول [ ص ] : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله [ أو حرص عليه ] " . . [ متفق عليه ] .
وثانيهما : تزكية النفس ، وهي محظورة بقوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم )?
ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله [ ص ] وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف - عليه السلام - والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة ، الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول . .
لا نريد أن نجيب بهذا ، وإن كان له وجه ، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا ، وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه ؛ وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها ، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص ، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها ، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود !
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ ! . . لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم ، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية . كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم ؛ إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ؛ كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي ؛ وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية .
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة ، دون إدراك لهاتين الحقيقتين ؛ ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام ، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها ؛ وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها . . الذين يفعلون ذلك ؛ ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ؛ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ . . هؤلاء ليسوا " فقهاء " ! وليس لهم " فقه " بطبيعة الفقه ! وبطبيعة هذا الدين أصلا !
إن " فقه الحركة " يختلف إختلافا أساسيا عن " فقه الأوراق " مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها " فقه الأوراق " !
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره " الواقع " الذي نزلت فيه النصوص ، وصيغت فيه الأحكام . ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره . فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته ، واختل تركيبه !
ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته ، يعيش في فراغ ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها . . إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ !
ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب ، وهو المأخوذ من قوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم )ومن قول رسول الله [ ص ] " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله " . .
لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ؛ ليطبق في هذا المجتمع ؛ وليعيش في هذا الوسط ؛ وليلبي حاجة ذلك المجتمع . وفق نشأته التاريخية ، ووفق تركيبه العضوي ، ووفق واقعه الذاتي . فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي . . وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي . وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشىءآثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي . . إسلامي في نشأته ، وفي تركيبه العضوي ، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة . . وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر " فراغا " بالقياس إلى ذلك الحكم ، لا يملك أن يعيش فيه ، ولا يصلح له ، ولا يصلحه كذلك !
. . ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي . وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني . .
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم ، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف ، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشوري أو للإمامة أو للإمارة . .
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم . كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم . وهؤلاء يجب أن يمنعوها !
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم ، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا
إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع . فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية . .
أولا : تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس ؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة . فمنهم من يفتن ويرتد ، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق . .
هؤلاء يفتح الله عليهم ، ويجعل منهم ستارا لقدره ، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره ، والتمكين في الأرض له ، ليقيم مملكة الله في الأرض - أي لينفذ حكم الله في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ؛ إنما هو نصر لدين الله ، وتمكين لربوبية الله في العباد .
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ؛ ولا عند حدود جنس معين ؛ ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة ! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا " الإنسان " . . كل الإنسان : في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ؛ وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت .
وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض ، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس ، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع ، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية ، الجميع يتعارفون عليها ، من البلاء في الجهاد ، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة . . وكلها قيم يحكم عليها الواقع ، وتبرزها الحركة ، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها . . ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم ، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة ، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار ، وأهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام . . في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا ، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية ! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة . . لن يوجد اليوم أو غدا ، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد ، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها . . وهذه نقطة البدء . . ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون ! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء . وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام ، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار ؛ حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق ، ويمكن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي . . ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية ، وفق الموازين والقيم الإيمانية . . ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها ، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم !
ولقد يقال بعد هذا : ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى . فإذا استقر المجتمع بعد ذلك ؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين ! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة . . يتحرك لتحرير " الإنسان " . كل الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ؛ وليرفعه عن العبودية للطواغيت ؛ بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة !
وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ؛ ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم . . ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه .
ثم يقال : ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ؛ ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية !
وهذا القول كذلك وهم ناشيء من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة . . إن المجتمع المسلم يكونأهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه ، والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم ؛ موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية ؛ فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية . . سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية . أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له . . يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة . والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة ! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم ، بتركيبه العضوي الحاضر ! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام . . إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم . فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع ، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام . مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من قتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة ، والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف . أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد ، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام ، ولا بالقيم الإيمانية . . وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام !
هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية ! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة ! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام ؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد ؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام ؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم ؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام ؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم ؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له ، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره ؟ . . .
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة !
أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة . . إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم ؛ وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر ، وبقيمه وأخلاقه الحاضرة !
هذه نقطة البدء في المتاهة . . ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ ، ويوغل في هذا الفراغ ، حتى يبعد في التيه ، وحتى يأخذه الدوار ! !
إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم ، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام . . لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظامالإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ؛ لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ ، ولم تتحرك في فراغ كذلك !
إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي . . ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه ؛ وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة .
إنه مجتمع جديد . . ومجتمع وليد . . ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير " الإنسان " ، . . كل الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت . . أيا كانت هذه الطواغيت . .
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة ، واختيار الإمام ، واختيار أهل الشورى . . . وما إليها . . . قضايا كثيرة تثار ، ويطرقها الباحثون في الإسلام . . في الفراغ . . في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه . . بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم . . وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته و أخلاقه ومشاعره وتصوراته . .
أعمال البنوك وأساسها الربوي . . شركات التأمين وقاعدتها الربوية . . تحديد النسل وما أدري ماذا ؟ ! إلى آخر هذه " المشكلات " التي يشغل " الباحثون " بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم . . إنهم جميعا - مع الأسف - يبدأون من نقطة البدء في المتاهة ! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر ؛ فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام !
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة !
إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم . إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا ، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية . . والعكس لا يمكن أن يكون أصلا !
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ، ولا يعيش في فراغ كذلك . . لا ينشأ في الأدمغة والأوراق ؛ إنما ينشأ في واقع الحياة . وليست أية حياة . إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد . . ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي ؛ فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق . . وعندئذ تختلف الأمور جدا . .
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل . . . الخ وقد لا يحتاج ! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته ، ولا حجمها ، ولا شكلها ، حتى نشرع لها سلفا ! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها . . ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها . ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك !
إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل ، الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه ! ولكن الأمر غير ذلك تماما . . إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشريةأن تطابق نفسها عليه ؛ وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة . . ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد . . هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد ، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت ، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم . . وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء . فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد ، ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد ، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق ، وحتى يمكن الله له في الأرض ، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي ، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه ، وتميزوا بقيمه . . وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها . . وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام ؛ وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات .
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها ، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة ، ثم بين كل أفراد الأمة ، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر . . إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية . . من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا ؟ ! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات ؟ ! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي ، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته ؟ !
وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا ؟ . . وهكذا . . وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها ، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي ، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه . . فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب ، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته !
إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية ؛ وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها ، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته ، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها .
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه . وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها . . حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره !
ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته ، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية ، والمجتمعات الجاهلية ، والحاجات الجاهلية . وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام ، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه . . أو بعبارة أخرى . . تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله ، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده ، واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به . وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها . وتنحية ربوبية العباد للعباد ، بتنحية حاكمية العباد للعباد ، وتشريع العباد للعباد .
وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول ، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود . وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو ، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا . .
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس ، باستنبات البذور في الهواء ، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء !
إن العمل في الحقل " الفكري " للفقه الإسلامي عمل مريح ! لأنه لاخطر فيه ! ولكنه ليس عملا للإسلام ؛ ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته ! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة ! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا !
إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول ، ومجرد خادم مطيع ، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه ، المتنكر له ، الشارد عنه . . الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته ؛ وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه . .
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ ، ولا تعمل في فراغ . . وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع . . ولن تنعكس الآية أبدا .
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ؛ والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا . ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي . ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على " الجاهز " والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام . وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية " الجاهزة " ! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة . . إلى آخر ما يخادع به بعضهم ، وينخدع به بعضهم الآخر !
كلا ! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله ؛ فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده . وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا . يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة . . ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة . وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك . . فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام . .
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض ؛ وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية .
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة . إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى ؛ وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ؛ ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية . ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق . . وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه ، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي ، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددةفي هذا المجتمع الوليد ، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها ، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا ، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين !
إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية . ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له ، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا . ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع . . ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ؛ ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية . .
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير ، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية . . هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي ، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين ؛ وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام ؛ وإن بقيت المآذن والمساجد ، والأدعية والشعائر ؛ تخدر مشاعر الباقين علي الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين ؛ وتوهمهم أنه لا يزال بخير ؛ وهو يمحى من الوجود محوا !
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر ، وقبل أن توجد المساجد . . وجد من يوم أن قيل للناس : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فعبدوه . ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر ، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت . إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزلت شرائع ! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع ؛ وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه ، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة . .
وهذا هو الطريق وحده ؛ وليس هنالك طريق آخر . .
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان ، وببيان أحكام الإسلام ! ولكن هذه إنما هي " الأماني " ! فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت ، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة . . والذي يبدؤه فرد ، ثم تتبعه طليعة ، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكن لها في الأرض . . ثم . . يدخل الناس في دين الله أفواجا . . ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . .
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف - عليه السلام .
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية . كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي . وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه . وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما . .
{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } مدح نفسه ، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهِل أمره ، للحاجة . وذكر أنه { حَفِيظٌ } أي : خازن أمين ، { عَلِيمٌ } ذو علم وبصرَ بما يتولاه{[15211]} .
قال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني ، عليم بِسِني الجَدْب . رواه ابن أبي حاتم .
وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ، ولما في ذلك من المصالح للناس{[15212]} وإنما سأل أن يُجْعَل على خزائن{[15213]} الأرض ، وهي الأهرام التي{[15214]} يجمع فيها الغلات ، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها ، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد ، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه ، وتكرِمَةً له ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىَ خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
يقول جلّ ثناؤه : قال يوسف للملك : اجعلني على خزائن أرضك ، وهي جمع خِزانة ، والألف واللام دخلتا في الأرض خلفا من الإضافة ، كما قال الشاعر .
*** والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبِ ***
وهذا من يوسف صلوات الله عليه مسألة منه للملك أن يوليه أمر طعام بلده وخراجها ، والقيام بأسباب بلده ، ففعل ذلك الملك به فيما بلغني . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ قال : كان لفرعون خزائن غير الطعام ، قال : فأسلم سلطانه كله إليه ، وجعل القضاء إليه ، أمره وقضاؤه نافذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ قال : على حفظ الطعام .
وقوله : { إنّي حَفيظٌ عَلِيمٌ } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إني حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما ولّيتني . قال : : قد فعلت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : حفيظ لما وليتُ ، عليم بأمره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي في قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني المجاعة .
وقال آخرون : إني حافظ للحساب ، عليم بالألسن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن الأشجعي : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ : حافظ للحساب ، عليم بالألسن .
وأولى القولين عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما أوليتني ، لأن ذلك عقيب قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض ، فكان إعلامه بأن عنده خبرة في ذلك ، وكفايته إياه ، أشبه من إعلامه حفظه الحساب ومعرفته بالألسن .
وجملة { قال اجعلني على خزائن الأرض } حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات .
و { على } هنا للاستعلاء المجازي ، وهو التصرف والتمكن ، أي اجعلني متصرّفاً في خزائن الأرض .
و { خزائن } جمع خِزانة بكسر الخاء ، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، وهي الأرض المعهودة لهم ، أي أرض مصر .
والمراد من { خزائن الأرض } خزائن كانت موجودة ، وهي خزائن الأموال ؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعداداً للسنوات المعبر عنها بقوله : { مما تحصنون } [ سورة يوسف : 48 ] .
واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح ، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه ولا عَرَضاً من متاع الدنيا ، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها .
وعلّل طلبه ذلك بقوله : إني حفيظ عليم } المفيد تعليل ما قبلها لوقوع ( إنّ ) في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما ، وهما : الحفظ لما يليه ، والعلم بتدبير ما يتولاه ، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما ، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما ، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان ، وصفة العلم المحققّ للمكانة . وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحِسبَة .
وشبه ابن عطية بمقام يوسفَ عليه السلام هذا مقام أبي بكر رضي الله عنه في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين . قلت : وهو تشبيه رشيق ، إذ كلاهما صدّيق .
وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة ، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة . وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر ، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام . فلا يعارض هذا ما جاء في « صحيح مسلم » عن عبد الرحمان بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتَها عن مسألة وُكلتَ إليها وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعنت عليها " لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله ولا راجحاً على جميعهم .
ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يُوَلّ ضاعت الحقوق . قال المازري : « يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن عَلم أنه إن لم يلِه ضاعت الحقوق أو وليه مَن لا يحلّ أن يولى . وكذلك إن كان وَلِيَه من لا تحلّ توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله » .
وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري .
وقال عياض في كتاب الإمارة ، أي من « شرح صحيح مسلم » ، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة ، وظاهر كلام ابن رشد في « المقدمات » حِرمة الطلب مطلقاً . قال ابن مرزوق : وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريباً منه للغزالي في « الوجيز » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم {قال} يوسف للملك: {اجعلني على خزائن الأرض} بمصر، {إني حفيظ} لما وكلتني به، {عليم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن أرضك، وهي جمع خِزانة... وهذا من يوسف صلوات الله عليه مسألة منه للملك أن يوليه أمر طعام بلده وخراجها، والقيام بأسباب بلده، ففعل ذلك الملك به فيما بلغني...
وقوله: {إنّي حَفيظٌ عَلِيمٌ} اختلف أهل التأويل في تأويل قوله؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: إني حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني... وقال آخرون: إني حافظ للحساب، عليم بالألسن...
وأولى القولين عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: إني حافظ لما استودعتني، عالم بما أوليتني، لأن ذلك عقيب قوله:"اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ" ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض، فكان إعلامه بأن عنده خبرة في ذلك، وكفايته إياه، أشبه من إعلامه حفظه الحساب ومعرفته بالألسن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} سأل هذا لما علم أنه ليس في وسعهم القيام بإصلاح ذلك الطعام، وعلم أنه لو ولي غيره الخزائن لم يعرف إنزال الناس من منازلهم في تقديم من يجب تقديمه، والقيام بحاجة الأحق من غيره... فسأله ليقوم بذلك كله، وعلى يديه يجري...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما سأل ذلك ليضعَ الحقَّ مَوْضِعَه، ليصلَ نصيبُ الفقراءِ إليهم، فَطَلَبَ حقَّ الله تعالى في ذلك، ولم يطلب نصيباً لنفسه. ويقال لم يقل إني حَسَنٌ جميلٌ بل قال: {إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أي كاتِبٌ حاسِبٌ، ليُعْلَمَ أَنَّ الفضلَ في المعاني لا في الصورة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قال الصديق؟ فقيل: {قال} ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا {اجعلني} قيماً {على خزائن الأرض} أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال: {إني حفيظ} أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه {عليم} أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم، مع ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قال اجعلني على خزائن الأرض} حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات. و {على} هنا للاستعلاء المجازي، وهو التصرف والتمكن، أي اجعلني متصرّفاً في خزائن الأرض. و {خزائن} جمع خِزانة بكسر الخاء، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال. والتعريف في {الأرض} تعريف العهد، وهي الأرض المعهودة لهم، أي أرض مصر. والمراد من {خزائن الأرض} خزائن كانت موجودة، وهي خزائن الأموال؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعداداً للسنوات المعبر عنها بقوله: {مما تحصنون} [سورة يوسف: 48]. واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه ولا عَرَضاً من متاع الدنيا، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها. وعلّل طلبه ذلك بقوله: إني حفيظ عليم} المفيد تعليل ما قبلها لوقوع (إنّ) في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما، وهما: الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان، وصفة العلم المحققّ للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحِسبَة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} هذا ليس طلبا من يوسف للولاية من أصلها، فقد ولاه الملك بمجرد ما دعاه إليه وقال: {إيتوني به أستخلصه لنفسي}، وإنما هو تنبيه من يوسف للملك إلى نوع العمل الخاص الذي يرى نفسه أهلا للقيام به، بعد تكليفه من طرف الملك تكليفا عاما، فقد كان يوسف يعلم أن مصر مقبلة على أيام شدة وأيام رخاء، كما فهمه من رؤيا الملك التي عبرها له أحسن تعبير، وكان يحس من أعماق نفسه أنه إذا وضعت خزائن مصر تحت إشرافه المباشر تصرف في غلاتها التصرف الأحوط والأرشد والأصلح لعموم الناس، واستعد الاستعداد اللازم للطوارئ المنتظرة في السنوات المقبلة. فلفت نظر الملك إلى نوع المسؤولية التي يستطيع تحملها على بينة وعن جدارة، حتى لا يكلفه الملك بمسؤولية أخرى يكون حظ نجاحه فيها أقل. وقوله في هذا السياق {إني حفيظ عليم} تبرير منه لهذا الاختيار، فهو يعرف من نفسه أنه موصوف بالحفظ والصيانة، اللازمين لكل خزانة، وهو على خبرة بالعلم المناسب لهذا النوع من العمل، ولكل عمل علمه الخاص به. وقد اعتمد يوسف في مجال المسؤولية والخدمة العامة على ما أكرمه الله به من حفظ وعلم، وهما من الخصال المعنوية البحتة، ولم يعرج مطلقا على ما آتاه الله من حسن وحسب ونسب، إذ لا دخل لها في الموضوع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد أراد أن يتحمل المسؤولية، التي لم يطلبها يوسف لنفسه، بل كانت تكليفاً من الملك في ما نستوحيه من التأكيد على مكانته المفضلة لديه، وإعلانه الثقة بأمانته. وهكذا اقترح يوسف عليه أن يعهد إليه بمسؤولية الجانب الاقتصادي، لأنه يملك المؤهلات والخبرة التي تمكنه من إنجاح خطته المرسومة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي تواجه البلد، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ} وهكذا طلب من الملك أن يعهد إليه أمر حفظ وتدبير الشأن المالي على مستوى الصرف والرعاية، وإدارة الموارد والمصادر، بما يملكه من علم، وكأنّه يريد أن يقول له: إنه سيكون في مستوى الثقة التي وضعها فيه. وهكذا كان، فقد عهد إليه الملك إدارة الشؤون الاقتصادية للبلد، وأصبح بذلك في موقع كبير يستطيع من خلاله، تحقيق هدفه في إقامة العدل، ورعاية المستضعفين، فهو ليس من الذين يزحفون إلى المواقع المتقدمة في المجتمع، أو في الدولة، لأجل طموحات ذاتية، ولو كان يسعى إلى شيء من هذا القبيل لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام التي تحملها في السجن، وفي خارجه كي يبقى في ساحة الإيمان، بعيداً عن كل أجواء الانحراف... إنه صاحب رسالة، ولهذا فإنه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة الناس من خلال بعض المواقع المتقدمة في الدولة. بين الإصلاح الجزئي والحل الشامل ونستطيع أن نستوحي من هذا الموقف، أن بإمكان المؤمنين الاستفادة من بعض الفرص السياسية والاجتماعية التي تمنحهم حرية الحركة، وتسهّل لهم أمر تطبيق مبادئ الإسلام في بعض مجالات الحياة، فلا يجب عليهم من وجهة النظر هذه أن ينتظروا إقامة الدولة التي تخطط للساحة كلها، بل يمكنهم أن يعملوا على سدّ بعض الفراغات، وحلّ بعض المشاكل، واحتلال بعض المواقع، التي تمكّنهم من إصلاح بعض قضايا الواقع، لأن الله يريد للإنسان أن يساهم في حل ما يمكن حلّه، دون انتظار للحل الشامل. ولكنّ سلوك مثل هذا التوجه، يتوقف على ألاّ تكون فرصة الحل الكامل جاهزةً على الطريق، ولا تحتاج سوى بعض الخطوات التنفيذيّة للوصول إليها، فإن الموقف حينئذ يتبدل باتجاه العمل على رفع كل الحواجز التي تعيق الوصول إلى الهدف الكبير، وبذلك يكون الإصلاح الجزئي عملاً غير صحيح، لأنه يعطّل الحركة السريعة نحو تحقيق النتائج الكبيرة، ويجمّد حالة التوتر الضروري لدفع عملية الوصول. إننا نريد استيحاء هذا المبدأ من قصة يوسف، في مواجهة الرأي القائل بضرورة الابتعاد عن مؤسسات المجتمع غير المؤمن، ويؤكد على الثورة الشاملة، ويرفض الإصلاح الجزئي بقطع النظر عن الظروف التي قد تفرض تأخير الوصول إلى الثورة الشاملة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فاختار يوسف منصب الأمانة على خزائن مصر، وقال اجعلني مشرفاً على خزائن هذا البلد فإنّي حفيظ عليم وعلى معرفة تامّة بأسرار المهنة وخصائصها {قال اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم}. كان يوسف يعلم أنّ جانباً كبيراً من الاضطراب الحاصل في ذلك المجتمع الكبير المليء بالظلم والجور يكمن في القضايا الاقتصادية، والآن وبعد أن عجزت أجهزة الحكم من حلّ تلك المشاكل واضطرّوا لطلب المساعدة منه، فمن الأفضل له أن يسيطر على اقتصاد مصر حتّى يتمكّن من مساعدة المستضعفين وأن يخفّف عنهم قدر ما يستطيع الآلام والمصاعب ويستردّ حقوقهم من الظالمين. ويقوم بترتيب الأوضاع المترديّة في ذاك البلد الكبير، ويجعل الزراعة وتنظيمها هدفه الأوّل وخاصّةً بعد وقوفه على أنّ السنين القادمة هي سنوات الوفرة حيث تليها سنوات المجاعة والقحط، فيدعو الناس إلى الزراعة وزيادة الإنتاج وعدم الإسراف في استعمال المنتوجات الزراعية وتقنين الحبوب وخزنها والاستفادة منها في أيّام القحط والشدّة. وهكذا لم ير يوسف بُدّاً من توليّة منصب الإشراف على خزائن مصر. وقال البعض: إنّ الملك حينما رأى في تلك السنة أنّ الأُمور قد ضاقت عليه وعجز عن حلّها، كان يبحث عمّن يعتمد عليه وينجّيه من المصاعب، فمن هنا حينما قابل يوسف ورآه أهلا لذلك أعطاه مقاليد الحكم بأجمعها واستقال هو من منصبه. وقال آخرون: إنّ الملك جعله في منصب الوزير الأوّل بديلا عن (عزيز مصر)...