وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشرا :
( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) . .
وإذا كان الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية ، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله :
( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) . .
وفق ما تقتضيه حكمته وعندما يشاء .
وإذا كان هناك خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب ، فإن لكل فترة كتابا ، وهذا هو الكتاب الأخير :
يقول تعالى : وكما أرسلناك ، يا محمد ، رسولا بشريا{[15690]} كذلك [ قد ]{[15691]} بعثنا المرسلين قبلك بَشَرًا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ، ويولد لهم ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وقد قال [ الله ]{[15692]} تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل الدسم{[15693]} وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " . {[15694]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أنبأنا الحجاج بن أرطأة عن مكحول قال : قال أبو أيوب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع من سنن المرسلين : التعطر ، والنكاح ، والسواك ، والحناء " {[15695]} .
وقد رواه أبو عيسى الترمذي ، عن سفيان بن وَكِيع عن حفص بن غِياث ، عن الحجاج ، عن مكحول ، عن أبى الشمال{[15696]} عن أبي أيوب . . . فذكره ، ثم قال : وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال{[15697]}-{[15698]} .
وقوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : لم يكن يأتي قومَه بخارق إلا إذا أُذِنَ له فيه ، ليس ذلك إليه ، بل إلى الله ، عز وجل ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها ، وكل شيء عنده بمقدار ، { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحج : 70 ]{[15699]} .
وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل كتاب أجل يعني{[15700]} لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين ، فلهذا يمحو{[15701]} ما يشاء منها ويثبت ، يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ أرْسَلْنا يا محمد رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ إلى أمم قد خلَت من قبل أمتك فجعلناهم بشرا مثلك ، لهم أزواج ينكحون ، وذرّية أنسلوهم ، ولم نجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، فنجعل الرسول إلى قومك من الملائكة مثلهم ، ولكن أرسلنا إليهم بشرا مثلهم ، كما أرسلنا إلى مَن قبلهم من سائر الأمم بشرا مثلهم . وَما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ : يقول تعالى ذكره : وما يقدر رسول أرسله الله إلى خلقه أن يأتي أمته بآية وعلامة من تسيير الجبال ونقل بلدة من مكان إلى مكان آخر وإحياء الموتى ونحوها من الاَيات إلاّ بإذن الله ، يقول : إلاّ بأمر الله الجبال بالسير والأرض بالانتقال ، والميتَ بأن يحيا .
لكُلّ أجَلٍ كِتابٌ يقول : لكلّ أجَل أَمْرٍ قضاه الله كتاب قد كتبه ، فهو عنده . وقد قيل : معناه : لكل كتاب أنزله الله من السماء أجل . ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : لِكُلّ أجَلٍ كِتابٌ يقول : لكلّ كتاب ينزل من السماء أجل ، فيمحو الله من ذلك ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب .
قال أبو جعفر : وهذا على هذا القول نظير قول الله : وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقرأها : «وجاءت سكرة الحقّ بالموت » ، وذلك أن سكرة الموت تأتي بالحقّ والحقّ يأتي بها ، فكذلك الأجل به كتاب وللكتاب أجل .
وقوله : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } الآية . في صدر هذه الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشراً رسولاً . فالمعنى : أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم . ثم جاء قوله : { وما كان لرسول } الآية ، لفظه لفظ النهي والزجر ، والمقصود به إنما هو النفي المحض ، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة ، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر ، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد ، و { بإذن الله } معناه : إلا أن يأذن الله في ذلك .
وقوله : { لكل أجل كتاب } لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال ، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته .
وكل أجل مكتوب محصور ، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة ، وقال الضحاك والفراء : المعنى : لكل كتاب أجل{[6981]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا العكس غير لازم ولا وجه له ، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن ، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له .
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } .
هذا عود إلى الردّ على المشركين في إنكارهم آية القرآن وتصميمهم على المطالبة بآية من مقترحاتهم تُماثل ما يؤثر من آيات موسى وآيات عيسى عليهما السلام ببيان أن الرسول لا يأتي بآيات إلاّ بإذن الله ، وأن ذلك لا يكون عى مقترحات الأقوام ، وذلك قوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } ، فالجملة عطف على جملة { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } [ الرعد : 37 ] .
وأدمج في هذا الرد إزالة شبهة قد تعرض أو قد عرضت لبعض المشركين فيطعنون أو طعنوا في نبوءة محمد بأنه يتزوج النساء وأن شأن النبي أن لا يهتم بالنساء . قال البغوي : روي أن اليهود وقيل إن المشركين قالوا : إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء اهـ . فتعين إن صحت الرواية في سبب النزول أن القائلين هم المشركون إذ هذه السورة مكية ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة ولا كان منهم في مكة أحد . وليس يلزم أن يكون هذا نازلاً على سبب . وقد تزوج رسول الله خديجة ثم سودة رضي الله عنهما في مكة فاحتمل أن المشركين قالوا قالةَ إنكار تعلقاً بأوهن أسباب الطعن في النبوءة . وهذه شبهة تعرض للسذج أو لأصحاب التمويه ، وقد يموّه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان فيفضلون عيسى عليه السلام على محمد بأن عيسى لم يتزوج النساء . وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلاً . وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل . ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى عليه السلام امرأةً . وقد كان يحيى عليه السلام حَصوراً فلعل عيسى عليه السلام قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل . وأما وصف الله يحيى عليه السلام بقوله : و{ حصوراً } فليس مقصوداً منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء عليه السلام بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى عليه السلام كرامة له ، ثم قدّر أنه لا يكون له نسل إنفاذاً لتقديره فجعل امرأته عاقراً . وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران . وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء عليهم السلام .
والأزواج : جمع زوج ، وهو من مقابلة الجمع بالجمع ، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل : نوح ولوط عليهما السلام ، وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل : إبراهيم وموسى وداود وسليمان عليهم السلام .
ولما كان المقصود من الردّ هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم يكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة .
وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى : { وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .
والذرية : النسل . وتقدم عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ) .
وجملة { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } هي المقصود وهي معطوفة على جملة { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } . وتركيب { ما كان } يدل على المبالغة في النفي ، كما تقدم عند قوله : { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } في سورة العقود ( 116 ) . والمعنى : أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلاّ بما آتاهم الله .
وإذن الله : هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بأن ستكون آية ، فاستعير الإتيان للإظهار ، واستعير الإذن للخلق والتكوين .
تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } . وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه . وهذا ينظر إلى قوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب } [ سورة العنكبوت : 53 ] فقد قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية [ سورة الأنفال : 32 ] .
وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعدوه آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله ، فإن لذلك آجالاً أرادها الله واقتضتها حكمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما تجري به تصرفات الخلائق .
والأجل : الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود .
والكتاب : المكتوب ، وهو كناية عن التحديد والضبط ، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها . وفي هذا الرد تعريض بالوعيد . والمعنى : لكل واقع أجلٌ يقع عنده ، ولكل أجل كتاب ، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه .