الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ} (38)

فيه مسألتان :

الأولى : قيل : إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج ، وعيرته بذلك وقالوا : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء ، فأنزل الله هذه والآية ، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية " أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا ، وإنما التخصيص في الوحي .

الثانية : هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه ، وتنهي عن التبتل ، وهو ترك النكاح ، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية ، والسنة واردة بمعناها ، قال صلى الله عليه وسلم : ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ) الحديث . وقد تقدم في " آل عمران " {[9416]} وقال : ( من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني ){[9417]} . ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزنى ، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال : ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه ) خرجه الموطأ وغيره .

وفي صحيح البخاري عن أنس قال : ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : إني أصوم الدهر فلا أفطر . وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم{[9418]} فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . خرجه مسلم بمعناه ، وهذا أبين .

وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال :( أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا ، وقد تقدم في " آل عمران " {[9419]} الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول : إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة ، وأطؤها وما أشتهيها ، قيل له : وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة ، وإني سمعته يقول : ( عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) يعني بقول : ( أنتق أرحاما ) أقبل للولد ، ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق ؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا . وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال ، وإنها لا تلد ، أفأتزوجها ؟ قال " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة فقال : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . صححه أبو محمد عبد الحق وحسبك .

قوله تعالى : " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله{[9420]} ذلك فيهم ، وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي ؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه . " لكل أجل كتاب " أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله ؛ قال الحسن . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، المعنى : لكل كتاب أجل ؛ قال الفراء والضحاك ، أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت ، ووقت معلوم ، نظيره . " لكل نبأ مستقر{[9421]} " [ الأنعام : 67 ] ، بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب ، بل لكل أجل كتاب . وقيل : المعنى لكل مدة كتاب مكتوب ، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة . وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما ، فقال : يا موسى ما هذا ؟ وهو أعلم به ، قال : شيء من حلي الرجال ، قال : فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي ؟ قال : لا ، قال : فاكتب عليه " لكل أجل كتاب " .


[9416]:راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
[9417]:روى ابن الجوزي في العلل "من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي" وراجع الحديث بطرقه في ج 2 كشف الخفا ص 239 ففيه بحث.
[9418]:من ي.
[9419]:راجع ج 4 ص 72، وج 6 ص 260 فما بعد.
[9420]:من ع.
[9421]:راجع ج 7 ص 11.