اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ} (38)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ } الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [ إبطال ] النبوة :

فالشهبة الأولى : قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى .

والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال : { لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [ الأنعام : 8 ] وقالوا : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] .

الشهبة الثالثة : عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الزوجات ، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عز وجل بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية ، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة .

والشبهة الرابعة : قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } .

الشبهة الخامس : أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [ وظهور النصرة له ولقومه ، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } يعنى نزول العذاب على الكفار ] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } فقيل : حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث ، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً .

الشبهة السادسة : قالوا : لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة ، كالتوارة والإنجيل ، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة ، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل ، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً .

فأجاب الله تعالى عنه بقوله { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } ويمكن أيضاً أن يكون قوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } كالمقدمة لتقرير هذا الإجابة ، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ، ثم يبقيه مدة مخصوصة ، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه ، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً ، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ؟ فكان المراد من قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ما ذكرنا .

ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ، ويحيي تارة ويميت أخرى ، ويغني تارة ويفقر أخرى ، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة ، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة .

قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل شيء وقت مقدر وقيل : لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت .

وقيل : هذا من المقلوب أي : فيه تقديم وتأخير ، أي : لكل كتاب أجل ينزل فيه ، أي : لكل كتاب وقت يعمل به ، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى ، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر .

وقيل : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } عند الملائكة ، فللإنسان أحوال : أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً ، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح .

وقيل : لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عز وجل فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث ، ولا يجوز حدوثه في غيره .

وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره .