( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية . فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ) . .
إن هذا التعقيب بتقرير الحق الذي تقوم به السماوات والأرض ، والذي به كان خلقهما وما بينهما ، لتعقيب عظيم الدلالة ، عميق المعنى ، عجيب التعبير . فماذا يشير إليه هذا القول : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق )? إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود : عميق في تكوينه . عميق في تدبيره . عميق في مصير هذا الوجود وما فيه ومن فيه .
عميق في تصميم هذا الوجود . فهو لم يخلق عبثا ، ولم يكن جزافا ، ولم يتلبس بتصميمه الأصيل خداع ولا زيف ولا باطل . والباطل طاريء عليه ليس عنصرا من عناصر تصميمه .
عميق في تكوينه . فقوامه من العناصر التي يتألف منها حق لا وهم ولا خداع . والنواميس التي تحكم هذه العناصر وتؤلف بينها حق لا يتزعزع ولا يضطرب ولا يتبدل . ولا يتلبس به هوى أو خلل أو اختلاف .
عميق في تدبيره . فبالحق يدبر ويصرف ، وفق تلك النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى ولا نزوة ، إنما تتبع الحق والعدل .
عميق في مصيره . فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة ؛ وكل تغيير يقع في السماوات والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق . وكل جزاء يترتب يتبع الحق الذي لا يحابي .
ومن هنا يتصل الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما ، بالساعة الآتية لا ريب فيها . فهي آتية لا تتخلف . وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود . فهي في ذاتها حقيقة ، وقد جاءت لتحق الحق .
يقول تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 - 116 ]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة ، وأنها كائنة لا محالة ، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين ، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم{[16226]} به ، كما قال تعالى : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }{[16227]} [ الزخرف : 89 ]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال . وهو كما قالا فإن هذه مكية ، والقتال إنما شرع بعد الهجرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وما خلقنا الخلائق كلها ، سماءها وأرضَها ، ما فيهما وما بَيْنَهُما يعني بقوله : وَما بَيْنَهُما مما في أطباق ذلك . إلاّ بالحَقّ يقول : إلا بالعدل والإنصاف ، لا بالظلم والجَور . وإنما يعني تعالى ذكره بذلك أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَها في هذه السورة وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به ، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور ، ولكنه خالق ذلك بالحقّ والعدل .
وقوله : وإنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن الساعة ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية ، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ . فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ يقول : فأعرض عنهم إعراضا جميلاً ، واعف عنهم عفوا حسنا .
وقوله تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض } الآية ، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء ، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثاً ولا سدى ، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم ، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم { وإن الساعة لآتية } على جميع أمور الدنيا ، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد ، { فاصفح } عن أعمالهم ، أي ولِّها صفحة عنقك بالإعراض عنها ، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض .
موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع . فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلاً لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقّوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها ، ولأن تكون تصديراً للجملة التي بعدها وهي جملة { وإن الساعة لآتية } . والمراد ساعة جزاء المكذّبين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي ساعة البعث . فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية ، وعلى الثّاني عاطفةً جملة على جملة وخبراً على خبر .
على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكمّلة لغيرها ، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظمُ الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة .
وتشمل { السموات والأرض وما بينهما } أصناف المخلوقات من حيوان وجماد ، فشمل الأمم التي على الأرض وما حلّ بها ، وشمل الملائكة الموكّلين بإنزال العذاب ، وشمل الحوادث الكونية التي حلّت بالأمم من الزلازل والصواعق والكِسف .
والباء في { إلا بالحق } للملابسة متعلقة ب { خلقنا } ، أي خلقا ملابساً للحقّ ومقارناً له بحيث يكون الحقّ بادياً في جميع أحوال المخلوقات .
والملابسة هنا عرفية ؛ فقد يتأخّر ظهور الحقّ عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخّراً متفاوتاً . فالملابسة بين الخلق والحقّ تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحقّ وخفائه ؛ على أنّه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دلّ عليه قوله تعالى : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } [ سورة الأنبياء : 18 ] .
والحقّ : هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشرّ ، والكمال والنقص ، والسموّ والخفض ، في كلّ نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يُصلحه ، وما يصلح هو له ، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات ، فإذا لاح ذلك الحقّ الموصوف مقارناً وجودُه لوجود محقوقه فالأمر واضح ، وإذا لاح تَخلّف شيء عن مناسبة فبالتأمّل والبحث يتّضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة ، ثم لا يتبدّل الحقّ آخر الأمر .
وهذا التأويل يُظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت ، فإن ذلك جزاء مناسبٌ تمردَها وفسادَها ، وأنها وإن أمهلت حيناً برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زماناً فهي لم تُفلت من العذاب المستحقّ لها ، وهو من الحقّ أيضاً فما كان إمهالها إلاّ حقّاً ، وما كان حلول العذاب بها إلاّ حقّاً عند حلول أسبابه ، وهو التمرّد على أنبيائهم . وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطّل الجزاء في الدّنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة .
وموقع جملة { وإن الساعة لآتية } في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال ، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقاً ملابساً للحقّ وأيقن به علم أن الحقّ لا يتخلّف عن مستحقِّه ولو غاب وتأخّر ، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطّل ظهور الحقّ في نصابه وتخلّفه عن أربابه .
فعُلم أنّ وراء هذا النّظام نظاماً مدّخراً يتّصل فيه الحقّ بكل مستحقّ إن خيراً وإن شراً ، فلا يُحْسبَنّ من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتاً من الجزاء فإن الله قد أعدّ عالماً آخر يعطي فيه الأمور مستحقّيها .
فلذلك أعقب الله و { وما خلقنا السموات والأرض } بآية { وإن الساعة لأتية } ، أي أن ساعة إنفاذ الحقّ آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذّبيك وإمهالهم كما قال تعالى : { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون } [ سورة يونس : 41 ] . والمقصود من هذا تسلية النبي على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم .
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حريّة بالفصل وعدم العطف لأن حقّها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقلّ اهتماماً بمضمونها ، ولأنها تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام على ما يلقاه من قومه ، وليصحّ تفريع أمره بالصّفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوَقت المقدر .
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقّق بها مراد الله من بقاء هذا الدّين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إيّاه وحمْله إلى الأمم .
والمرد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة . وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون } في سورة الأحقاف ( 3 ) .
وتفريع { فاصفح الصفح الجميل } على قوله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } باعتبار المعنى الكنائي له ، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقّيهم للدّعوة .
و { الصفح } : العفو . وقد تقدم في قوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } في سورة العقود ( 13 ) . وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدّين وحذف متعلق الصّفح لظهوره ، أي عمن كذّبك وآذاك .
{ والجميل } : الحسن . والمراد الصفح الكامل .
ثمّ إن في هذه الآية ضرباً من ردّ العجز على الصدر ، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله : { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجاً } [ سورة الحجر : 14 16 ] الآيات . وختمت بآية : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون إلى قوله تعالى : { وإن ربك هو يحشرهم } [ سورة الحجر : 23 25 ] .
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام وما فيه من العِبر .
ثم إلى سَوق قصص الأمم الّتي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى : وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } الآيات ، فجاءت على وزان قوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } [ سورة الحجر : 16 ] الآيات . فإن ذلك خلق بديع .
وكان قوله تعالى : { وإن الساعة لآتية } فذلكة لقوله تعالى : { وإنا لنحن نحيي ونميت } إلى : { وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم } [ سورة الحجر : 25 ] ، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه . ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ سورة الحجر : 87 ] الناظر إلى قوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] .