ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول :
( قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين ) .
لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه ، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص . . إنه العذاب الذي لا دافع له ، وغضب الله المصاحب له . . ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه ؛ يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم :
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ . .
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة ! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم ؛ من عند أنفسكم ، لم يشرعها الله ولم يأذن بها ، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان .
والتعبير المتكرر في القرآن : ( ما نزل الله بها من سلطان ) . . هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة . . إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله ، خفيف الوزن ، قليل الأثر ، سريع الزوال . . إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف ، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق ، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه .
وكم من كلمات براقة ، وكم من مذاهب ونظريات ، وكم من تصورات مزوقة ، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين . . ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله ، فيها من سلطانه - سبحانه - سلطان !
وفي ثقة المطمئن ، وقوة المتمكن ، يواجه هود قومه بالتحدي :
( فانتظروا ، إني معكم من المنتظرين ) . .
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .
ولهذا قال هود ، عليه السلام : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي : قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ]{[11873]} قيل : هو مقلوب من رجز . وعن ابن عباس : معناه السخَط والغضب .
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي : أتحاجوني{[11874]} في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ؛ ولهذا قال : { مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِيَ أَسْمَآءٍ سَمّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مّا نَزّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوَاْ إِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال هود لقومه : قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله . وكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لنا عنه ، يزعم أن الرجز والرجس بمعنى واحد ، وأنها مقلوبة ، قُلبت السين زايا ، كما قلبت شئز وهي من شئس بسين ، وكما قالوا قربوس وقربوز ، وكما قال الراجز :
ألا لَحَى اللّهُ بَنِي السّعْلاتِ ***عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ لِئامِ النّاتِ
***لَيْسُوا بأعْفافٍ وَلا أكْياتِ ***
يريد الناس . وأكياس فقُلبت السين تاء ، كما قال رؤبة :
كَمْ قَدْ رأيْنا مِنْ عَدِيدِ مُبْزِي ***حتى وَقَمْنا كَيْدَهُ بالرّجْزِ
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : الرجز : السخط .
حدثني بذلك المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ رِجْسٌ يقول : سخط .
وأما قوله : أتُجادِلُونَنِي في أسْماءٍ سَمّيْتمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ فإنه يقول : أتخاصمونني في أسماء سميتموها أصناما لا تضرّ ولا تنفع أنتم وآباؤكم ما نَزّلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يقول : ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجون بها ولا معذرة تعتذرون بها . لأن العبادة إنما هي لمن ضرّ ونفع وأثاب على الطاعة وعاقب على المعصية ورزق ومنع ، فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ ، إلاّ أن تتخذ منه آلة ، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه لأن الله يأذن بذلك ، فيعذر من عبده بأنه يعبده اتباعا منه أمر الله في عبادته إياه ، ولا هو إذ كان الله لم يأذن في عبادته مما يرجى نفعه أو يخاف ضرّه في عاجل أو آجل ، فيعبد رجاء نفعه أو دفع ضرّه . فانْتَظِرُوا إنّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرينَ يقول : فانتظروا حكم الله فينا وفيكم ، إني معكم من المنتظرين حكمه وفصل قضائه فينا وفيكم .
أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز » بمعنى واحد ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
إذا سنة كانت بنجد محيطة*** فكان عليهم رجسها وعذابها
وقد يأتي الرجس أيضاً بمعنى النتن والقذر ، ويقال في الرجيع رجس وركس ، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات ، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن ، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية : «دعوها فإنها منتنة » وقوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة ، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات ، لكنه ورد في القرآن { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم } فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام ، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه .
قال القاضي أبو محمد : ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل ، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون ، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول ، من ذلك قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } وقوله { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] على أن هذا يتأول ، ومنه قول لبيد : [ الطويل ]
إلى الحوِل ثمَّ اسمُ السلام عليكما . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على تأويلات في البيت ، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان : البرهان وقوله { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } الآية وعيد وتهديد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.