وقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } أي : بادروهما بالتكذيب ، { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي : قويناهما{[24703]} وشددنا أزرهما برسول ثالث .
قال ابن جُرَيْج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا ، واسم الثالث بولص ، والقرية أنطاكية . { قَالُوا } أي : لأهل تلك القرية : { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } أي : من ربكم الذي خلقكم ، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له . قاله أبو العالية .
وزعم قتادة بن دعامة : أنهم كانوا رسل المسيح ، عليه السلام ، إلى أهل أنطاكية .
وقوله : إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ يقول تعالى ذكره : حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذّبوهما فشددناهما بثالث ، وقوّيناهما به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال : شدّدنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال : زدنا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال : جعلناهم ثلاثة ، قال : ذلك التعزّز ، قال : والتعزّز : القوّة .
وقوله : فَقالُوا إنّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ يقول : فقال المرسلون الثلاثة لأصحاب القرية : إنا إليكم أيها القومُ مرسلون ، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده ، لا شريك له ، وتتبرّءوا مما تعبدون من الاَلهة والأصنام . وبالتشديد في قوله : فَعَزّزْنا قرأت القرّاء سِوى عاصم ، فإنه قرأه بالتخفيف ، والقراءة عندنا بالتشديد ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن معناه ، إذا شُدّد : فقوّينا ، وإذا خُفف : فغلبنا ، وليس لغلبنا في هذا الموضع كثير معنى .
{ واضرب لهم } ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : { مثلا أصحاب القرية } على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له ، والقرية انطاكية . { إذ جاءها المرسلون } بدل م أصحاب القرية ، و{ المرسلون } رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس عليهم الصلاة والسلام ، وقيل غيرهما . { فكذبوهما فعززنا } فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به . { بثالث } وهو شمعون . { فقالا إنا إليكم مرسلون } وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام أرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا ؟
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به ، فقال له يوما : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ، قال فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال وما آيتكما ، قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف ، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، ثم قال أن قدر إهلكما على حياء ميت آمنا به ، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ، ومن ل يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ" يقول تعالى ذكره: حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذّبوهما فشددناهما بثالث، وقوّيناهما به... قال ابن زيد، في قوله: "فَعَزّزْنا بِثالِثٍ "قال: جعلناهم ثلاثة، قال: ذلك التعزّز، قال: والتعزّز: القوّة.
وقوله: "فَقالُوا إنّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ" يقول: فقال المرسلون الثلاثة لأصحاب القرية: إنا إليكم أيها القومُ مرسلون، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده، لا شريك له، وتتبرّؤوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به، مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى الصراط المستقيم، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية، أبدل من قوله {إذ جاءها} تفصيلاً لذلك المجيء قوله، مسنداً إلى نفسه المقدس لكونه أعظم في التسلية: {إذ أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة.
ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال: {إليهم اثنين} أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالهما إليهم كأن قالا: نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله {فكذبوهما} أي مع ما لهما من الآيات، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور، لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون آية فكانت نوراً في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.
ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه، وأعون على ما يراد منه، سبب عن ذلك قوله حاذفاً المفعول لفهمه من السياق، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له: {فعززنا} أي فأوقعنا العزة، وهي القوة والشدة والغلبة، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتكذيب فحصل ما أردنا من العزة -بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف.
{بثالث} أرسلناه بما أرسلناهما به {فقالوا} أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم: {إنا إليكم} أي لا إلى غيركم {مرسلون}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتأكيد قولهم: {إنا إليكم مرسلون} لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيداً وسطاً، ويسمى هذا ضرباً طلبياً.
وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.