يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من الفضل العَميم فقال : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة " الصافات " ، وذكر الخلاف في الاتكاء : هل هو الاضطجاع ، أو التمرفق ، أو التربع أو التمكن في الجلوس ؟ وأن الأرائك هي السُّرر تحت الحجال .
وقوله : { لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا } أي : ليس عندهم حَرّ مزعج ، ولا برد مؤلم ، بل هي مزاج واحد دائم سَرْمَدْيّ ، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } [ الكهف : 108 ] .
وقوله : مَتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ يقول : متكئين في الجنة على السّرر في الحجال ، وهي الأرائك واحدتها أريكة . وقد بيّنا ذلك بشواهده ، وما فيه من أقوال أهل التأويل فيما مضى بما أغنى عن إعادته ، غير أنا نذكر في هذا الموضع من الرواية بعض ما لم نذكره إن شاء الله تعالى قبل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ يعني : الحِجال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكَ كنا نُحدّث أنها الحجال فيها الأسرّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الحصين ، عن مجاهد مُتّكِئِينَ فِيها عَلى الأرَائِكِ قال : السّرُر في الحجال .
ونصب مُتّكِئِينَ فيها على الحال من الهاء والميم . وقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسا وَلا زَمْهَرِيرا يقول تعالى ذكره : لا يرَوْن فيها شمسا فيؤذيهم حرّها ، ولا زمهريرا ، وهو البرد الشديد ، فيؤذيهم بردها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، قال : الزمهرير : البرد المفظع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : لا يَرَوْنَ فيها شَمْسا وَلا زَمْهَريرا يعلم أن شدّة الحرّ تؤذي ، وشدّة القرّ تؤذي ، فوقاهم الله أذاهما .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن السّدّيّ ، عن مرّة بن عبد الله قال في الزمهرير : إنه لون من العذاب ، قال الله : لا يَذُوقُون فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبّها ، فَقالَتْ رَبّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضا ، فَنَفّسْنِي ، فأذِنَ لَهَا فِي كُلّ عامٍ بنَفَسَينِ فأشَدّ ما تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنَ زَمْهَرِيرِ جَهَنّم وأشَدّ ما تَجِدونَ مِنَ الحَرّ مِنْ حَرّ جَهَنّمَ » .
متكئين فيها على الأرائك حال من هم في جزاهم أو صفة ل جنة لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا يحتملهما وأن يكون حالا من المستكن في متكئين والمعنى أنه يمر عليهم فيها هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ وقيل الزمهرير القمر في لغة طيئ قال راجزهم وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر والمعنى أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس وقمر .
و { متكئين } : حال من ضمير الجمع في { جزاهم } ، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك .
والاتكاء : جَلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح ، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " أمَّا أنا فلا آكل متكئاً " وتقدم ذلك في سورة يوسف ( 31 ) عند قوله تعالى : { وأعْتَدَتْ لَهُن مُتَّكَئاً } .
و{ الأرائك } : جمع أريكة بوزن سفينة . والأريكة : سرير عليه وسادة معها ستر وهو حَجَلتُه ، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم : كِلَّة تنصب فوق السرير لتقي الحر والشمس ، ولا يسمى السرير أريكة إلاّ إذا كان معه حَجَلة .
وقيل : كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حَجَلة ، وفي « الإِتقان » عن ابن الجوزي : أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في « جمع المعرب في القرآن » .
وجملة : { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } حال ثانية من ضمير الغائب في { جزاهم } أو صفة { جنة } .
والمراد بالشمس : حرّ أشعتها ، فنفي رؤية الشمس في قوله : { لا يرون فيها شمساً } فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حرّ شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله :
أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره .
والزمهرير : اسم للبرْد القوي في لغة الحجاز ، والزمهرير : اسم البرد .
والمعنى : أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال . وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع « زوجي كلَيْللِ تِهامهْ ، لا حرَّ ولا قُرّ ولا مخافةَ ولا سآمهْ » .
وقال ثعلب : الزمهرير اسم القمر في لغة طيء ، وأنشد :
وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهريرُ ما زَهَر
والمعنى على هذا : أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر ، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها . وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد .
ومن الناس من يقول : المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وإن في الكلام احتباكاً ، والتقديرُ : لا يرون فيها شمساً ولا قَمراً ولا حَرّاً ولا زمهريراً وجعلوه مثالاً للاحتباك في المحسنات البديعية ، ولعل مراده : أن المعنى أن نورها معتدل وهواءَها معتدل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{متكئين فيها على الأرائك} يعني على السرر عليها الحجال.
{لا يرون فيها شمسا} لا يصيبهم حر الشمس {ولا زمهريرا} يعني ولا يصيبهم برد الزمهرير، لأنه ليس فيها شتاء ولا صيف.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
متكئين في الجنة على السّرر في الحجال، وهي الأرائك واحدتها أريكة.
"لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسا وَلا زَمْهَرِيرا" يقول تعالى ذكره: لا يرَوْن فيها شمسا فيؤذيهم حرّها، ولا زمهريرا، وهو البرد الشديد، فيؤذيهم بردها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} بل يكون ظلها دائما محدودا. فجائز أن يكون المراد منه أن ضياء الجنة ليس بالشمس، ولكن بما خلقت مضيئة، لأن الشمس في الدنيا يقع بها الضياء، فيكون ضياء النهار بالشمس، وذكر أنهم لا يرون فيها الزمهرير ليعلم أن لذات شراب الجنة وبرودته بالخلقة لا أن تكون برودتها بتغير يقع في الأحوال على ما يكون عليه شراب أهل الدنيا، أو يكون ذكر هذا ليعلموا أنهم لا يؤذون بحر ولا برد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني: أن هواءها معتدل، لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة، أتبعه حالهم فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة: {متكئين فيها} أي لأن- كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة إلى حركة أصلاً، ودل على الملك بقوله {على الأرآئك} أي الأسرة العالية التي في الحجال، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة، و- قال بعضهم: هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرائك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها. ولما كانت بيوت الدنيا وبساتينها تحتاج إلى الانتقال منها من موضع إلى موضع لأجل الحر أو البرد، بين أن جميع أرض الجنة وغرفها سواء في لذة العيش وسبوغ الظل واعتدال الأمر، فقال نافياً ضر الحر ثم البرد: {لا يرون فيها} أي بأبصارهم ولا بصائرهم أصلاً {شمساً} أي ولا قمراً {ولا} أي و لا يرون فيها أيضاً ببصائرهم أي لا يحسون بما يسمى {زمهريراً} أي برداً شديداً مزعجاً ولا حراً، فالآية من الاحتباك: دل بنفي الشمس أولاً على نفي القمر، لأن ظهوره بها لأن نوره اكتساب من نور الشمس، ودل بنفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحر الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أن الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان لأنه لا تكليف فيها بوجه، وأنها ظليلة ومعتدلة دائماً لأن سبب الحر الآن قرب الشمس من مسامته الرؤوس، وسبب البرد بعدها عن ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولنا أن نقول: إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها.. وكفى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إشارة إلى اطمئنانهم وارتياحهم الكاملين، لأنّ الإنسان لا يجلس متكئاً عادة إلاَّ عند الراحة والاطمئنان والهدوء.