اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۖ لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا} (13)

قوله : { مُّتَّكِئِينَ } . حال من مفعول «جزاهم » والعامل فيها «جزى » ولا يعمل فيها «صبروا » ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتِّكاء في الآخرة .

وقرأ علي{[58891]} - رضي الله عنه - «وجازاهم » .

وجوَّز أبو البقاء : أن يكون صفة ل «جَنَّةً » .

وهذا لا يجوز عند البصريين ؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير ، فيقال : «مُتَّكِئِينَ هُمْ فِيهَا » لجريان الصفة على غير من هي له .

وقد منع مكي أن يكون «متكئين » صفة ل «جنة » لما ذكرنا من عدم بروز الضمير .

وممن ذهب إلى كون «متكئين » صفة ل «جنة » ، الزمخشري ، فإنه قال : «ويجوز أن يكون مُتَّكئينَ ، ولا يَروْنَ ، ودَانيةً ، كلها صفات الجنة » . وهو مردود بما تقدم .

ولا يجوز أن يكون «متكئين » حالاً من فاعل «صبروا » ؛ لأن الصبر كان في الدنيا ، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة . قال معناه مكي .

ولقائل أن يقول : إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالاً مقدرة ، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة ، وله نظائر .

قال ابن الخطيب{[58892]} : وقال الأخفش : وقد ينصب على المدح والضمير في «فيها » أي في الجنة وقال الفراء : وإن شئت جعلت «متكئين » تابعاً ، كأنه قال : جزاؤهم جنة متكئين فيها .

والأرائك : السُّرُر في الحجال ، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : إحداها الأريكة لا تكون إلاَّ حجلة على سرير . وثانيها : السَّجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلاً ، وكذلك الذنُوب لا تسمى ذَنوباً حتى تملأ ، قاله القرطبي{[58893]} .

وهذا فيه نظر ، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي ؛ قال : [ الكامل ]

5042- . . . *** يَغْشَى المُهَجْهِجْ كالذَّنُوبِ المُرسَلِ{[58894]}

يعني الدَّلو إذا ألقي في البئر ، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغاً .

قال : والكأس لا تسمى كأساً حتى تُترعَ من الخمر ، قال : وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مِهْدًى ، فإذا كان فارغاً يُسمَّى طبقاً أو خواناً .

قال ابن الأعرابي : مِهْدى - بكسر الميم - ، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى ، والمهداء - بالمد - الذي من عادته أن يهدى .

وقيل : الأرائك : الفرش على السرر ؛ قال ذو الرمة : [ الطويل ]

5043- خُدودٌ جَفتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنَّمَا *** يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مسَّ الأرَائِكِ{[58895]}

أي : الفرش على السرر .

قوله : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } . فيها أوجه :

أحدها : أنها حال ثانية من مفعول «جزاهم » .

الثاني : أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في «متَّكئينَ » فتكون حالاً متداخلة .

الثالث : أن تكون صفة ل «جنة » ك «متكئين » عند من يرى ذلك - كما تقدم - عن الزمخشري .

والزمهرير : أشد البرد ، وهذا هو المعروف ؛ وقيل : هو القمرُ بلغة طيّىء ، وأنشد : [ الرجز ]

5044- فِي لَيْلةٍ ظلامُهَا قد اعْتكَرْ *** قطَّعتُهَا والزَّمهرِيرُ مَا نَهَرْ{[58896]}

ويروى : ما ظهر ، أي : لم يطلع القمر ، والمعنى : لا يرون فيها شمساً كشمس الدنيا ، ولا قمراً كقمر الدنيا ، أي : أنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر ، والمعنى : أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر ، ووزنه «فعلليل » ، وقيل : المعنى : لا يرون في الجنَّة شدة حر كحرِّ الشمس ، ولا زمهريراً ، أي : ولا برداً مفرطاً .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّهَا سُبحانَهُ ، قالتْ : يَا ربِّ ، أكَلَ بَعْضِي بعْضاً ، فجعلَ لَهَا نفسينِ : نفساً في الشِّتاء ، ونفساً في الصَّيْف فشِدَّةُ ما تَجِدُونَ من البَرْدِ من زَمْهَرِيرِهَا ، وشدَّةِ ما تَجِدُونَ من الحرَِّ في الصَّيْفِ من سَمُومِهَا »{[58897]} .

قال مرة الهمداني : الزمهرير : البرد القاطع .

وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رءوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو لونٌ من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحد .


[58891]:ينظر: المحرر الوجيز 5/411، والبحر المحيط 8/388.
[58892]:الفخر الرازي 30/219.
[58893]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 19/89.
[58894]:عجز بيت للبيد وصدره: *** أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه *** ينظر ديوانه ص 127، واللسان (هجهج).
[58895]:ينظر ديوانه 3/1729، ومجاز القرآن 1/401، 2/164، والقرطبي 19/88.
[58896]:ينظر الكشاف 4/670، والقرطبي 19/90، والبحر 8/385، والدر المصون 6/443، وروح المعاني 29/200.
[58897]:أخرجه البخاري (2/32)، كتاب مواقيت الصلاة: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (536،537) ومسلم (1/430) كتاب المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (180/215) والشافعي في "مسنده" (1/52) رقم (154) والترمذي (2595) وابن ماجه (4319) وأحمد (2/238، 277) والبغوي في "شرح السنة" (2/24) من حديث أبي هريرة.