الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۖ لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا} (13)

قوله تعالى : " متكئين فيها " أي في الجنة ، ونصب " متكئين " على الحال من الهاء والميم في " جزاهم " والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها " صبروا " ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة . وقال الفراء . وإن شئت جعلت " متكئين " تابعا ، كأنه قال جزاهم جنة " متكئين فيها " . " على الأرائك " السرر في الحجال وقد تقدم{[15679]} . وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير ، ومنها السجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، والكأس لا تسمى ، كأسا حتى تترع من الخمر . وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مِهْدَى ، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان ، قال ذو الرمة :

خُدُودٌ جَفَتْ في السَّيْرِ حتَّى كأنما *** يُبَاشِرْنَ بالمَعْزَاءِ مَسَّ الأرائك{[15680]}

أي الفرش على السرر . " لا يرون فيها شمسا " أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس " ولا زمهريرا " أي ولا بردا مفرطا . قال الأعشى :

مُنَعَّمَةٌ طَفْلَةٌ كالمَهَاةِ *** لم ترَ شمساً ولا زَمهريرا{[15681]}

وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من سمومها ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن هواء الجنة سجسج : لا حر ولا برد ) والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس . وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع . وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد . وقال ابن مسعود : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا . قال أبو النجم :

أو كنتُ ريحاً كنتُ زمهريرا

وقال ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة طيي . قال شاعرهم :

وليلةٍ ظلامُهَا قد اعْتَكَرْ *** قَطَعْتُهَا والزمهريرُ ما زَهَرْ

ويروى : ما ظهر ، أي لم يطلع القمر . فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي إنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ؛ لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر . وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة " مريم " {[15682]} عند قوله تعالى : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " [ مريم : 62 ] . وقال ابن عباس : بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة ، فيقولون : قال ربنا : " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمس ولا قمر ، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله تعالى : " هل أتى على الإنسان " وأنشد :

أنا مَوْلىً لفتَى *** أُنْزِلَ فيهِ هلْ أتَى

ذاك عليٌّ المرتَضَى *** وابن عم المصطفَى


[15679]:راجع جـ 10 ص 398.
[15680]:المعزاء: الأرض الصلبة. يقول: من شدة الحاجة إلى النوم يرون الأرض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك وهي السرر. ويروى: "خدودا" على أنه مفعول لفعل في البيت قبله.
[15681]:الذي في ديوان الأعشى طبع أوربا. مبتلة الخلق مثل المهاة ... الخ.
[15682]:راجع جـ 11 ص 127.