الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۖ لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا} (13)

{ مُّتَّكِئِينَ } نصب على الحال { فِيهَا } في الجنة { عَلَى الأَرَائِكِ } السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا . قال الحسن : وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال : أريكه فلان .

وقال مقاتل : الأرائك : السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر . { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي شتاء ولا قيضاً .

قال قتادة : علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعاً ، وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع . مقاتل بن حيّان : هو شي مثل روس الابر ينزل من السماء في غاية البرد . ابن سمعود : هو لون من العذاب وهو البرد الشديد .

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } قال الزمهرير القمر بلغة طي . قال شاعرهم :

وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهرير ما زهر

أي لم يطلع القمر .

واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً وكانت قصته .

أخبرنا ابن فتجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال : " بلغنا أن مسكيناً أتى رسول الله ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله أطعمني فقال : " والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب " فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له : أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : أطعمني فقال : ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب ، فقال : الأنصاري لأمرأته : ما ترين ؟ فقالت : أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله ( عليه السلام ) يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال : " ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب " فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له : أطعمني فقال لامرأته : ما ترين ؟ قالت : أطعمه فاطعمه ، ثم أتى رسول الله ( عليه السلام ) أسير فقال : يا رسول الله أطعمني ، فقال : " والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب " فأتى الأسير الأنصاري فقال له : أطعمني ، فقال : لامرأته ما ترين فقالت : أطعمه ، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة ، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } " .

وقال غيرهما : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه .

وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلثمائة قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محبوب بن حميد النصري قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب الخوار ابن عم الأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال : حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال : حدّثنا أبو مسعود عبدالرحمن بن فهد بن هلال قال : حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال : حدّثني سعيد بن واقد المزني قال : حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء .

فقال علي رضي الله عنه : إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً ، وقالت فاطمة رضي الله عنها : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي رضي الله عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري ، وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير ، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا ، فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال : نعم ، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا : فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي ( عليه السلام ) المغرب ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة ، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول :

فاطم ذات المجد واليقين *** يا ابنة خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين *** قد قام بالباب له حنين

يشكوا إلى الله ويستكين *** يشكوا إلينا جائع حزين

كل امرء بكسبه رهين *** وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين *** حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين *** تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين *** من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة :

أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه *** ما بي من لؤم ولا وضاعه

غذيت من خبز له صناعة *** أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه *** أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الخلد ولي شفاعه

قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح ، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي ( عليه السلام ) ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين ، استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي الله عنه فأخذ يقول :

فاطم بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم *** من يرحم اليوم يكن رحيم

موعده في جنّة النعيم *** قد حرّم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم *** يزل في النار إلى الجحيم

فأنشأت فاطمة :

أطعمه اليوم ولا أبالي *** وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي *** أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال *** للقاتل الويل مع الوبال

تهوى به النار إلى سفال *** وفي يديه الغل والأغلال

كبوله زادت على الأكبال .

قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح ، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي ( عليه السلام ) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسرونا [ وتشدوننا ] ولا تطعمونا ، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة ، فسمعه علي فأنشأ يقول :

فاطم يابنة النبي أحمد *** بنت نبي سيد مسوّد

هذا أسير للنبي المهتد *** مكبّلٌ في غلّه مقيّد

يشكو إلينا الجوع قد تمدد *** من يطعم اليوم يجده من غد

عند العلي الواحد الموحّد *** ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأنشأت فاطمة تقول :

لم يبق مما جاء غير صاع *** قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله من الجياع *** يارب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع *** يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين طويل الباع *** وما على رأسي من قناع

إلاّ قناعاً نسجه انساع

قال : فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم " أخذ علي رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي ( عليه السلام ) قال : يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم ، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها ، فلما رأها النبي( عليه السلام ) قال : " واغوثاه بالله ، أهل بيت محمد يموتون جوعاً " فهبط جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد خذها ، هنّأك الله في أهل بيتك قال : " وما أخذنا يا جبرائيل " فاقرأه { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ } إلى قوله { وَلاَ شُكُوراً } إلى آخر السورة " .

قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث : فوثب النبي ( عليه السلام ) حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي ، ثم قال : أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم ، فهبط جبرائيل ( عليه السلام ) بهذه الآيات { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } قال : هي عين في دار النبي ( عليه السلام ) تفجر إلى دور الأنبياء ( عليهم السلام ) والمؤمنين .

{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } يقول على شهوتهم للطعام ، وإيثارهم مسكيناً من مساكين المسلمين ويتيماً من يتامى المسلمين ، وأسيراً من أسارى المشركين ، ويقولون إذا أطعموهم { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } قال : والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم ، ولكنهم أضمروه في نفوسهم ، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون : لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً } في الوجوه { وَسُرُوراً } في القلوب { وَجَزَاهُمْ } بما صبروا { جَنَّةً } يسكنونها { وَحَرِيراً } يلبسونه ويفترشونه { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } .

قال ابن عباس : وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءاً كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة : يا رضوان قال : ربّنا عزّوجل { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } فيقول : لهم رضوان : ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكاً أشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله سبحانه : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } إلى قوله : { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } .

وأنشدت فيه :

أنا مولى لفتى *** أنزل فيه هل أتى

وعلى هذا القول تكون السورة مدنية ، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة : هي كلّها مدنية ، وقال الحسن وعكرمة : منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } والباقي مدني ، قال الآخرون : هي كلّه مكيّة والله أعلم .