في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

58

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق ، يصور تكليفا ضخما ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : ( هو اجتباكم ) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !

وهو تكليف محفوف برحمة الله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !

وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : ( ملة أبيكم إبراهيم )وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .

وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) . .

والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) . . فالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .

ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه ، وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .

هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله :

فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .

فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد .

بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .

فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .

إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ؛ ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .

وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة ، المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } أي : بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .

وقوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع .

{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين - تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتُصَلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات ؛ ولهذا قال ، عليه السلام{[20422]} : " بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة " {[20423]} وقال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن : " بَشِّرا ولا تنفرا ، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا " {[20424]} . والأحاديث في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني : من ضيق .

وقوله : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير : نصب على تقدير : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : من ضيق ، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم . [ قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم إبراهيم ]{[20425]} .

قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [ الأنعام : 161 ] .

وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال : الله عز وجل . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } يعني : إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة : 128 ] .

قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، { وَفِي هَذَا } يعني : القرآن . وكذا قال غيره .

قلت : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن { وَفِي هَذَا } ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية :

أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شُعَيب ، أنبأنا معاوية بن سلام{[20426]} أن أخاه زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم " . قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ قال : " نعم ، وإن صام وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " {[20427]} .

وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } من سورة البقرة [ الآية : 21 ] ؛ ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }

أي : إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا{[20428]} خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها{[20429]} على كل أمة سواها ؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك . وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته .

وقوله : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ، وترك ما حرم . ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله ، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة " التوبة " {[20430]} .

وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي : اعتضدوا بالله{[20431]} ، واستعينوا به ، وتوكلوا{[20432]} عليه ، وتَأيَّدوا به ، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي : حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني : [ نعم ]{[20433]} الولي ونعم الناصر من الأعداء .

قال وُهَيْب بن الورد : يقول الله تعالى : ابن آدم ، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلمتَ فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . رواه ابن أبي حاتم .

والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال .

ختام السورة:

هذا آخر تفسير سورة " الحج " ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين{[1]} .


[1]:زيادة من أ.
[20422]:- في ت : "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
[20423]:- رواه أحمد في مسنده (5/266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[20424]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (3038) ومسلم في صحيحه برقم (1732).
[20425]:- زيادة من ت ، ف.
[20426]:- في ت : "سالم".
[20427]:- سنن النسائي الكبرى برقم (11349).
[20428]:- في أ : "عدلا".
[20429]:- في أ : "بسيادتهم وفضلهم".
[20430]:- انظر تفسير الآية : 60 من سورة التوبة.
[20431]:- في أ : "به".
[20432]:- في أ : "اتكلوا".
[20433]:- زيادة من ت.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هََذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ } .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ فقال بعضهم : معناه : وجاهدوا المشركين في سبيل الله حقّ جهاده . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ كما جاهدتم أوّل مرّة فقال عمر : من أمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس . فقال عمر : صدقت .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تخافوا في الله لومة لائم . قالوا : وذلك هو حقّ الجهاد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَجاهِدُوا في اللّهِ حَقّ جِهادِهِ لا تخافو في الله لومة لائم .

وقال آخرون : معنى ذلك : اعملوا بالحقّ حقّ عمله . وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر .

والصواب من القول في ذلك : قول من قال : عُنى به الجهاد في سبيل الله لأن المعروف من الجهاد ذلك ، وهو الأغلب على قول القائل : جاهدت في الله . وحقّ الجهاد : هو استفراغ الطاقة فيه .

وقوله : هُوَ اجْتَباكُمْ يقول : هو اختاركم لدينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله وقال ابن زيد في ذلك ، ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : هُوَ اجْتَباكُمْ قال : هو هداكم .

وقوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول تعالى ذكره : وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم به من ضيق ، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه بل وسّع عليكم ، فجعل التوبة من بعض مخرجا ، والكفّارة من بعض ، والقصاص من بعض ، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد ، عن ابن شهاب ، قال : سأل عبد الملك بن مروان عليّ بن عبد الله بن عباس عن هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الّدِين مِنْ حَرَجٍ فقال عليّ بن عبد الله : الحَرَج : الضيق ، فجعل الله الكفارات مَخْرجا من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك .

قال : أخربنا ابن وهب ، قال : ثني سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يُسْأل عن : مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الّدهين مِنْ حَرَج ، قال : ما ها هنا من هُذَيل أحد ؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما تعدّون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق . قال ابن عباس : فهو كذلك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس ، وذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال ابن عباس : أها هنا أحد من هذيل ؟ فقال رجل : أنا ، فقال أيضا : ما تعدّون الحرج ؟ وسائر الحديث مثله .

حدثني عمران بن بكار الكُلاعيّ ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا يحيى بن حمزة ، عن الحكم بن عبد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدّث ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : «هو الضّيقُ » .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا أبو خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : أتدري ما الحرج ؟ قلت : لا أدري . قال : الضيق . وقرأ هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : من ضيق .

حدثنا عمرو بن بندق ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : هل تدري ما الحَرَج ؟ قلت لا ، قال : الضيق ، إن الله لم يضيق عليكم ، لم يجعل عليكم في الدين من حرج .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن القاسم أنه تلا هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ حَرَجٍ قال : تدرون ما الحرج ؟ قال : الضيق .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن ، فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربيّ . ثم دعا ابن عباس أعرابيّا ، فقال : ما الحَرَج ؟ قال : الضيق . قال : صدقت

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : من ضيق .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم ، ولكنه قد وسع عليكم حتى تَيَقّنوا محلها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : هذا في هلال شهر رمضان إذا شكّ فيه الناس ، وفي الحجّ إذا شكوا في الهلال ، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليهم ، وأشباهه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما جعل في الإسلام من ضيق ، بل وسعه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق ، هو واسع ، وهو مثل قوله في الأنعام : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدِ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهْ ضَيّقا حَرَجا يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه صدره ، حتى يجعل عليه الإسلام ضيقا ، والإسلامُ واسع .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول : من ضيق ، يقول : جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا .

وقوله : مِلّةَ أبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ نصب ملة بمعنى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، بل وسعه ، كملّة أبيكم فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت . وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها ، لأن الكلام قبله أمر ، فكأنه قيل : اركعوا واسجدوا والزموا ملَة أبيكم إبراهيم . ) وقوله : هُوَ سمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفِي هَذَا يقول تعالى ذكره : سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم المسلمين من قبل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ يقول : الله سماكم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء بن ابن أبي رباح ، أنه سمع ابن عباس يقول : الله سماكم المسلمين من قبل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قَتادة : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ قال : الله سماكم المسلمين من قبل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُوَ سمّاكُمُ المُسْلمِينَ قال : الله سماكم .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ يقول : الله سماكم المسلمين .

وقال آخرون : بل معنا : إبراهيم سماكم المسلمين وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ قال : ألا ترى قول إبراهيم وَاجْعَلْنا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ قال : هذا قول إبراهيم هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ، ذُكرت بالإيمان والإسلام جميعا ، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالإيمان .

ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن ، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل ، وقد قال الله تعالى ذكره : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفي هَذَا ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله الذي لم يزل ولا يزال . وأما قوله : مِنْ قَبْلُ فإن معناه : من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله . وفي هَذَا يقول : وَفِي هَذَا الكِتابِ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وفي هذا القرآن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : مِنْ قَبْلُ قال : في الكتب كلها والذكر وفي هَذَا يعني القرآن .

وقوله : لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ يقول تعالى ذكره : اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلّغوا أممهم ما أُرسلوا به إليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قال : الله سماكم المسلمين من قبل . وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَيْكُمْ بأنه بلّغكم . وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ أنّ رسلهم قد بلغتهم .

وبه عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبيّ ، كان يقال للنبيّ : اذهب فليس عليك حرج وقال الله : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ، وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك وقال الله لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سَلْ تُعْطَهْ وقال الله : ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبيّ ، كان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك حَرَج فقال الله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك وقال الله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سَلْ تُعْطَهْ وقال الله اُدْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

{ وجاهدوا في الله } أي والله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . { حق جهاده } أي جهادا فيه أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم ، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله . { هو اجتباكم } اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه في قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم ، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه ، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم " . وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد { ملة أبيكم إبراهيم } منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دنكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذرتيه فغلبوا على غيرهم . { هو سماكم المسلمين من قبل } من قبل القرآن في الكتب المتقدمة . { وفي هذا } وفي القرآن ، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ " الله سماكم " ، أو ل { إبراهيم } وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } . وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين . ل{ يكون الرسول } يوم القيامة متعلق بسماكم . { شهيدا عليكم } بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته ، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى . { وتكونوا شهداء على الناس } بتبليغ الرسل إليهم . { فأقيموا الصلوة وآتو الزكوة } فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف . { واعتصموا بالله } وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه . { هو مولاكم } ناصركم ومتولي أموركم { فنعم المولى ونعم النصير } هو إذ لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة .

ختام السورة:

عن النبي عليه الصلاة والسلام " من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

{ وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده }

الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » . وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه ، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية .

ومعنى ( في ) التعليل ، أي لأجل الله ، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم « دخلت امرأة النارَ في هِرّة » أي لأجل هِرة ، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله : « حَبَسَتْها لا هِيَ أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً » . وانتصب { حق جهاده } على المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وأضيفت الصفة إلى الموصوف ، وأصله : جهادَه الحقّ ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة ، أي حق الجهاد لأجله ، وقرينة المراد تقدّم حرف ( في ) كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] .

والحق بمعنى الخالص ، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير .

والآية أمر بالجهاد ، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفاً قوله : { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله } [ الحج : 60 ] ، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر ، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة .

{ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس }

جملة { هو اجتباكم } إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] الخ ، أي لأنه لما اجتباكم ، كان حقيقاً بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها .

والاجتباء : الاصطفاء والاختبار ، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه . فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع .

وإن حمل قوله { هو اجتباكم } على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظاً فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة .

وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] .

وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله ديناً لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله ، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] . ووصفهِ الدين بالحنيف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم « بُعِثت بالحنيفيّة السّمحة » . والحرج : الضيق ، أطلق على عسر الأفعال تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عُرفية كما هنا .

والمِلّة : الدين والشريعة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } في [ سورة النحل : 123 ] . وقوله : { واتبعت ملة آباءي } في [ سورة يوسف : 38 ] .

وقوله { ملة أبيكم إبراهيم } زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحْضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر ، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة أبي إبراهيم » أي بقوله : { ربّنا وابْعَث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم ، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام . ومعلوم أن للإسلام أحكاماً كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم ، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم ، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب { ملة أبيكم إبراهيم } على الحال من { الدّين } باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم .

ثم إن كان الخطاب موجّهاً إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة ، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المُضَرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين ؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قِبل الأمهات .

وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحُرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] ، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرىء قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] بزيادة وهو أبوهم .

ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال : ملّة أبيك إبراهيم .

والضمير في { هو سماكم المسلمين } عائد إلى الجلالة كضمير { هو اجتباكم } فتكون الجملة استئنافاً ثانياً ، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم .

و { قبْلُ } إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه .

والاسم الذي أضيف إليه { قبلُ } محذوف ، وبني { قبلُ } على الضم إشعاراً بالمضاف إليه . والتقدير : من قبل القرآن . والقرينة قوله { وفي هذا } ، أي وفي هذا القرآن .

والإشارة في قوله { وفي هذا } إلى القرآن كما في قوله تعالى : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } [ الأحقاف : 4 ] ، أي وسماكم المسلمين في القرآن . وذلك في نحو قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] وقوله : { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] .

واللاّم في قوله { ليكون الرسول شهيداً عليكم } يتعلّق بقوله { اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] أو بقوله { اجتباكم } أي ليكون الرسول ، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيداً على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به ، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس ، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون . ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا ، وقدمت شهادة الأمة في آية [ البقرة : 143 ] { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول . فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم ، وآية البقرة صُدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ . { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير }

تفريع على جملة { هو اجتباكم } وما بعدها ، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله .

والاعتصام : افتعال من العَصْم ، وهو المنع من الضُرّ والنجاةُ ، قال تعالى : { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله } [ هود : 43 ] ، وقال النابغة :

يظل من خوفه الملاحُ مُعتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجد

والمعنى : اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم .

وجملة { هو مولاكم } مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته .

والمولى : السيد الذي يراعي صلاح عبده .

وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير . أي نِعم المدبر لشؤونكم ، ونِعم الناصر لكم . ونصير : صيغة مبالغة في النصر ، أي نِعم المولى لكم ونِعم النصير لكم . وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم .

وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولايَة الله تعالى وحسن نصره . وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به .

وهذا من براعة الختام ، كما هو بَيّن لذوي الأفهام