سورة العنكبوت مكية وآياتها تسع وستون
سورة العنكبوت مكية . وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية . وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين " . . ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية . وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء . وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال . وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية . لذلك نرجح مكية الآيات كلها . أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير . لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة . أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن . وهذا واضح في السياق . وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس .
والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام .
إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة ، وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس . فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف .
ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها ؛ فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب ، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان ، استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان . على امتداد الأجيال .
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى ، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها ، وقد أخذها الله جميعا :
( فكلا أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ) . .
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها :
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) .
ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ؛ ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فكلها من عند الله . وكلها دعوة واحدة إلى الله . ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له ؛ وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون . ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . ويتناقضون في منطقهم : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ! ) . . ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله ! ) . . ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) . . ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين .
وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة ، غير خائفين من الموت ، إذ ( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون ) . غير خائفين من فوات الرزق : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم . .
ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين ) . . فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة ، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام ، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل .
ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط :
الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان ، وسنة الابتلاء والفتنة ، ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين . ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة : ( وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) . .
والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه ، وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة ، والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله . ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل ، وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض . وكله من عند الله .
والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى . إلا الذين ظلموا منهم . وعن وحدة الدين كله ، واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون ، ويجادل فيه المشركون . ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبل الله : ( وإن الله لمع المحسنين ) . .
ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته . تهز الوجدان هزا . وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جد صارم ؛ فإما النهوض بها وإما النكوص عنها . وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله .
وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها . فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق .
الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أنها مادة الكتاب الذي أنزله الله على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] مؤلفا من مثل هذه الحروف ، المألوفة للقوم ، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول ؛ ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب ؛ لأنه من صنع الله لا من صنع إنسان .
وقد قلنا من قبل : إن السور التي صدرت بهذه الحروف تتضمن حديثا عن القرآن ، إما مباشرة بعد هذه الحروف ، وإما في ثنايا السورة ، كما هو الحال في هذه السورة . فقد ورد فيها : ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) . . ( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ) . . ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) . . ( أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) . . مما يتمشى مع القاعدة التي اخترناها لتفسير هذه الأحرف في افتتاح السور .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } .
قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى قول الله تعالى ذكره الم وذكرنا أقوال أهل التأويل في تأويله ، والذي هو أولى بالصواب من أقوالهم عندنا ، بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فإن معناه : أظَنّ الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى المشركين إياهم ، أن نتركَهم بغير اختبار ، ولا ابتلاء امتحان ، بأن قالوا : آمنا بك يا محمد ، فصدّقناك فيما جئتنا به من عند الله ، كَلاّ لنختبرهم ، ليتبين الصادق منهم من الكاذب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله آمّنا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : يُبْتلَون في أنفسهم وأموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ : أي لا يُبْتَلَون .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : لا يُبْتَلَون .
فَأَنِ الأولى منصوبة بحسب ، والثانية منصوبة في قول بعض أهل العربية ، بتعلق يتركوا بها ، وأن معنى الكلام على قوله أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا لأن يقولوا آمنا فلما حذفت اللام الخافضة من لأَنْ ، نصبت على ما ذكرت . وأما على قول غيره فهي في موضع خفض بإضمار الخافض ، ولا تكاد العرب تقول : تركت فلانا أن يذهب ، فتدخل أنْ في الكلام ، وإنما تقول : تركته يذهب ، وإنما أدخلت أن هاهنا لاكتفاء الكلام بقوله أنْ يُتْرَكُوا إذ كان معناه : أحسب الناس أن يُتركوا وهم لا يفتنون ، من أجل أن يقولوا آمنا ، فكان قوله : أنْ يُتْرَكُوا مكتفية بوقوعها على الناس ، دون أخبارهم . وإن جعلت «أن » في قوله أنْ يَقُولُوا منصوبة بنية تكرير أحسب ، كان جائزا ، فيكون معنى الكلام : أحسب الناس أن يُتركوا : أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رواه عكرمة قال : كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما ، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } في سورة البقرة .
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } .
وهي مكية كلها في قول الجمهور ، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة ، وقيل بعضها مدني . روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله { وليعلمن الكاذبين } نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم .
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله } إلى قوله { وليعلمن المنافقين } نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي .
وفي أسباب النزول للواحدي : عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين . وعن علي ابن أبي طالب أن السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة . وقيل : إن آية { ومن الناس من يقول آمنا بالله } نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها .
وقال في الإتقان : ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } .
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين . وسورة المطففين آخر السور المكية . ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة .
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين ، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين .
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار .
افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة ، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا { أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون } . فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا .
ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنهم من أهل الكتاب .
والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا اقرب القرابة .
ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك .
ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام .
والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بمثل ما جاءوا به .
وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر .
والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أمية من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم .
وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه .
وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السماوات ومن في الأرض .
والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو اعجب من إعادته .
وتوعد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله .
وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت .
تقدم القول في معاني أمثالها مستوفى عند مفتتح سورة البقرة .
واعلم أن التهجي المقصود به التعجيز يأتي في كثير من سور القرآن وليس يلزم أن يقع ذكر القرآن أو الكتاب بعد تلك الحروف وإن كان ذلك هو الغالب في سور القرآن ما عدا ثلاث سور وهي فاتحة سورة مريم وفاتحة هذه السورة وفاتحة سورة الروم . على أن هذه السورة لم تخْلُ من إشارة إلى التحدّي بإعجاز القرآن لقوله تعالى { أوَ لَمْ يَكْفِهِم أنّا أنزلنا إليك الكتاب يُتْلى عليهم } [ العنكبوت : 51 ] .