تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة العنكبوت

أهداف سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية ، نزلت بعد سورة الروم ، وآياتها 69 آية ، وقد نزلت سورة العنكبوت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة ، وكانت هذه الفترة من أقسى الفترات ولذلك تعرضت السورة لتثبيت المؤمنين على الإيمان ، وبيان أن هناك ضريبة يدفعها المؤمن ، هي الفتنة والامتحان بالإيذاء أو بالإغراء أو بالوعد أو بالوعيد .

وتناولت قصص الأنبياء السابقين وجهادهم وبلاءهم ، ثم إهلاك الكافرين وانتصار المؤمنين ، وسميت سورة العنكبوت بهذا الاسم لتكرر ذكر العنكبوت فيها في قوله تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [ العنكبوت : 41 ] .

وفي المصحف المطبوع بالقاهرة والمتداول بين الناس نجد في عنوان السورة : سورة العنكبوت مكية إلا من آية 1 إلى غاية 11 فمدنية .

وقد رجحت اللجنة المشرفة على طبع المصحف الرأي القائل بأن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية ، وذلك لذكر الجهاد فيها ، وذكر المنافقين .

وعند التأمل يترجح لدينا أن السورة كلها مكية ، أما تفسير الجهاد فيها فمرجعه أنها ورادة بصدد الجهاد ضد الفتنة ، أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن ، وهذا واضح في السياق ، وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس .

ثلاثة فصول

الخط الأساسي لسورة العنكبوت هو الحديث عن الإيمان والفتنة ، وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس ، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والثبات في المحن .

ومع أن موضوع السورة هو تكاليف الإيمان والثبات في المحنة . . إلا أنه يمكن أن نقسم سورة العنكبوت إلى ثلاثة عناصر لهذا الموضوع أو ثلاثة فصول :

الفصل الأول : من أول السورة إلى الآية 13 .

ويتناول حقيقة الإيمان ، وسنة الابتلاء والفتنة ، ومصير المؤمنين والكافرين ، ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة .

{ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } [ العنكبوت : 13 ] .

الفصل الثاني : من الآية 14 إلى الآية 45

ويتناول قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب ، وإشارة إلى قبيلتي عاد وثمود ، ويصور هذا القصص ما وجد من عقبات وفتن في طريق كل دعوة ، ويتحدث عن التهوين من شأن هذه العقبات أمام قوة الإيمان والاعتماد على قدرة الله ، والمضي في تبليغ رسالته وتحمل تبعات هذه الرسالة إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل . قال تعالى : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . . } [ الأنبياء : 18 ] .

الفصل الثالث : من الآية 46 إلى آخر السورة .

ويتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ، ويتناول وحدة الدين والعقيدة والإيمان ، واتحاد ذلك مع الدين الخير الذي يجحد به الكافرون ويجادل فيه المشركون ، ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبيله .

ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته تهز الوجدان هزا ، وتوقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة حازمة ، فإما النهوض بها ، وإما النكوص عنها ، وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله .

القصص في سورة العنكبوت

استغرقت الآيات من [ 14-45 ] في الحديث عن قصص الأنبياء ، والتعليق عليه ، وبيان العظة والعبرة منه .

وبدأت بالحديث عن نوح عليه السلام ، فقد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، هي مدة الرسالة وجزء من حياته كان قبل الرسالة ، وجزء منها كان بعد الطوفان وهو عمر مديد ، ولكن نتيجته محدودة فلم يؤمن به إلا قليل من قومه .

ثم ثنى بالحديث عن إبراهيم الخليل صاحب الرسالة الكبرى ، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الخالق الرزاق ، ونبذ الأوثان والأصنام ، والتوجه إلى الله الإله الواحد : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه . . } [ العنكبوت : 24 ] .

وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة وسفورها بلا حياء ولا تحرج ، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ ، مع الاستهتار بالنذير : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } [ العنكبوت : 29 ] .

وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل فاستحقوا عذاب السماء : { فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } [ العنكبوت : 37 ] .

وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة ، كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال واستبداد الحكم والتمرد على أمر الله .

وفي النهاية يلقى الظالم حتفه جزاء ظلمه ، وقد تكرر هذا المعنى في سور سابقة وتأكد هنا ليستقر في الأذهان أمام المشركين والظالمين .

قال تعالى : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ العنكبوت : 40 ]

وتعقب السورة على هذا القصص بمثل ضربته لهوان قوى الشرك والظلم ، فالباطل مهما علا لا مستقبل له ، والحق مهما امتحن مستقبله هنيء مريء ، قال تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [ العنكبوت : 41 ] .

وينتهي هذا القصص بهوان الشرك وعزة الإيمان ، وبيان قدرة الله الذي يضرب الأمثال ليتعظ بها العقلاء وليفهمها العلماء ، قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .

الدرس الأخير في سورة العنكبوت

يستغرق الدرس الأخير في السورة ربعا كاملا من الآية 46 إلى الآية 61 والسورة بدأت بإعلان ثقل تكاليف الإيمان ، وتعرض المؤمنين للبلاء والامتحان ، ثم ذكرت قصص الأنبياء وبلاءهم من عهد نوح .

وفي هذا الدرس الأخير يبين القرآن وحدة الرسالات في الهدف ، فالرسالات كلها من عهد نوح والرسل من بعده إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد هو إصلاح العقيدة وتهذيب السلوك ورد البشرية الضالة إلى قوانين الله العادلة ، وأن المؤمنين بكل رسالة إخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة تعبد إلها واحدا ، وأن البشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله ، وصنف المشاقين وهم حزب الشيطان .

ولقد ختم الجزء العشرون في القرآن بآية شهيرة تدعو إلى تلاوة الكتاب وقراءة القرآن وإقامة الصلاة ، هي قوله تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون } [ العنكبوت : 45 ] .

وبدأ الجزء الحادي والعشرون بالحديث عن هذا الكتاب ، العلاقة بينه وبين الكتب السابقة ، ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة –إلا الذين ظلموا منهم وبدلوا في كتبهم وانحرفوا إلى الشرك ، والشرك ظلم عظيم- ودعت الآية المؤمنين أن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها ، فهي حق من عند الله يصدق ما معهم من القرآن والإسلام . قال تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [ العنكبوت : 46 ] .

ثم يحذر القرآن المشركين من استعجالهم بعذاب الله ، ويهددهم بمجيئه بغتة ، ويصور لهم قربه منهم ، وإحاطة جهنم بهم ، ويصف حالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده ، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب ، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم ، وكل معوق يقعد بهم ، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمان في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب ، فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية إلا خالقها اللطيف الخبير الذي تكفل برزق كل دابة في كل مكان وزمان .

وينتقل من هذا التعجب من حال أولئك المشركين ، وهم يتخبطون في تصوراتهم ، فيقرّون لله سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الموات ، وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين ، ثم هم بعد ذلك يشكرون بالله ويكفرون بكتابه ، ويؤذون رسوله ، ويفتنون المؤمنين به ، ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه ، والناس من حولهم في خوف وقلق وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة ، ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين .

وتختم السورة بوعد من الله سبحانه بهداية المجاهدين ورعايتهم ، فيقول سبحانه : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] .

{ الم ( 1 ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون( 2 ) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( 3 ) أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون( 4 ) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم( 5 ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين( 6 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذين كانوا يعملون( 7 ) } .

1

التفسير :

1-{ الم }

سبق الحديث عن هذه الأحرف في سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما .

والخلاصة أنها حروف للتنبيه والتحدي والإعجاز ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة .