مكية{[1]} إلا عشر آيات من أولها إلى قوله : " وليعلمن المنافقين " . قال الشعبي{[2]} : فإنها مدنية . وهي تسع وستون آية ، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون ( حرفاً ){[3]} .
اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف ، فإنها مشاق في الحال ، ولا فائدةَ لها في المآل ؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها{[40984]} بين أن الأمر ليس على ما حسبوه ، بل ( حسن التكليف ){[40985]} ، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور ، فقال : { أحسب الناس أن يتركوا } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم .
فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ{[40986]} بحروف التَّهَجِّي :
ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف .
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب ( إليه ){[40987]} بسببه ، ويقبل بقلبه عليه ، ثم يشرع في المقصود .
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام ( المقصود{[40988]} قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً ، كقول القائل : «زَيْدٌ ، ويَا زَيْدُ » و «أَلاَ زَيْدُ » .
وقد يكون المقدم صوتاً ) غير مفهوم ، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير الفم ، كتصفيق الإنسان بيده ، ليقبل السامع عليه .
ثم إن توقع{[40989]} الغفلة ( كلما كان أتم ، والكلام المقصود كان أهم ){[40990]} ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب «بالهمزة » فيقال : «أَزَيْدُ » ، والبعيد ب «يَا » ، فيقال : «يَا زَيْدُ » ، والغافل ينبه أولاً ، فيقال : «أَلاَ يَا زَيْدُ » .
إذا تقرر هذا فنقول : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ{[40991]} لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات .
وتلك الحروف إذا لم يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة ، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى ، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و «لا »{[40992]} كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره ، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود .
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة{[40993]} .
فإن قيلَ : فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف ؟ .
فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل{[40994]} البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها ( حروف التهجي فإن في أوائلها ){[40995]} ذكر الكتاب أو التنزيل ، أو القرآن كقوله تعالى : { الم ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 1 - 2 ] ،
{ الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 1 - 3 ] ، { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ } [ الأعراف : 1 - 2 ] ، { يس والقرآن } [ يس : 1 - 2 ] ، { الم تَنزِيلُ الكتاب } [ السجدة : 1 - 2 ] ، { حم تَنزِيلُ } [ غافر : 1 - 2 ] { ق والقرآن المجيد } [ ق : 1 - 2 ] . { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 - 2 ] ( إلا ثلاثَ سُوَرٍ ){[40996]} { كهيعص } [ مريم : 1 ] { الم أَحَسِبَ الناس } [ العنكبوت : 1 - 2 ] { الم غُلِبَتِ الروم } [ الروم : 1 - 2 ] .
والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف ( و ){[40997]} هي أن القرآن عظيم ، والإنزال له أثقل ، كما قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] ، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه .
لا يُقالُ : كل سورة قرآن ، واستماعها استماع للقرآن ، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة ( منبه ){[40998]} ، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال ، والكتاب ، وليس فيها حروف ، كقوله تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] لأنا نقول جواباً عن الأول : ( لا ريب ){[40999]} في أن كل سورة من القرآن ، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن ، فإن قوله تعالى : { طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 1 - 2 ] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن ، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما ، وكتاب آخر يدر منه عليه فيه : «إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه{[41000]} أمرُنا فامتثلْه » فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول .
وعن الثاني : أن قوله : «الحمد لله ، وتبارك الذي » تسبيحات مقصودة ، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد ، فلا يحتاج إلى منبه ، بخلاف الأوامر والنواهي ، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح ، و «سورة أنزلناها » قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها ، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل{[41001]} .
وأما قوله تعالى : «إنا أنزلناه » فهذا ليس وُرُوداً{[41002]} على مشغول القلب بشيء غيره ، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ .
واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها ، كقوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وقوله : { يا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] ، { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ } [ التحريم : 1 ] لأنها أشياء هائلة عظيمة ، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها .
وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن ، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد ، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا } يعني لا يتركون بمجرد ذلك ، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف ، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر فيها القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي .
فإن قيل : فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله : { بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين } [ التوبة : 16 ] ولم يقدم عليه حروف التهجي ! .
فالجواب : أن هذا ابتداء كلام ، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة ، فقال : «أَحَسِبَ » ، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً ، والتنبيه ( يكون ){[41003]} في أول الكلام ، لا في أثنائه .
وأما { الم غُلِبَتِ الروم } فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى{[41004]} .
قوله تعالى : { أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا } .
قوله : «أن يتركوا » سد مسد مفعولي «حسب » عند الجمهور{[41005]} ، ومسد أحدهما عند الأخفش{[41006]} .
قوله : «أن يقولوا » فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من «أن يتركوا »{[41007]} ، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله .
الثاني : أنها على إسقاط الخافض{[41008]} ، وهو الباء واللام ، أي : بأن يقولوا ، أو لأنْ يَقُولُوا .
قال ابن عطية{[41009]} وأبو البقاء : إذا قدرت الباء كان حالاً .
قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء ، كما تقول : تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي : أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى .
وهذا تفسير معنى ، ولو فسر الإعراب لقال : أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان .
وقال الزمخشري{[41010]} : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان{[41011]} ( في الآية ){[41012]} ؟ .
قلت : هو في قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم : آمنا ، فالترك أولى مفعولي «حسب » ، وقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
2024 - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[41013]}
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : ( تركهم ){[41014]} غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام .
فإن قلت : أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟
قلت : كما تقول : خُرُوجُه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت ( مخافة ){[41015]} الشر وضربته تأديباً تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً{[41016]} .
قال أبو حيان : وهذا كلام فيه اضطراب ، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه حال ، لأنه سَبَك ذلك من قوله : { وهم لا يفتنون } وهي{[41017]} جملة حالية ، ثم ذكر » أن يتركوا «هنا من الترك الذي هو تصيير{[41018]} ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول «صير » الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذا يصير التقدير : أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ .
وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون «جزر السباع » مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية .
وأما تقديره : تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم{[41019]} مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا مفعول ثان .
وأما قوله : فإن قلت : أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله{[41020]} ( فهم ){[41021]} ، وذلك أن قوله : أن يقولوا هو علة تركهم ، فليس كذلك ، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل ، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن ، والخبر غير المبتدأ ، ولو كان «لقولهم » علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر .
وأما قوله : كما تقول : خروجه لمخافة الشرِّ ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن{[41022]} انتهى .
قال شهاب الدين{[41023]} : «ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامه عليه صحيح .
وأما قوله : ليس علة للخروج ونحو ذلك ، يعني في اللفظ ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً ، ولولا خوف الخروج فات المقصود »{[41024]} .
معنى الآية : أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا { وهم لا يفتنون } وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم ، كلا لنختبرنهم ، ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب{[41025]} .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال الشعبي : نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فقتل بعضهم ونجا بعضهم ، فأنزل الله هاتين الآيتين{[41026]} .
وقال ابن عباس{[41027]} : نزلت في الذين آمنوا بمكة ، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام{[41028]} و عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر{[41029]} وغيرهم .
وقال مقاتل{[41030]} : «نزلت في مهجع بن عبد الله ، مولى عمر بن الخطاب ، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة »{[41031]} ، فجزع أبواه وامرأته ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، وقيل : وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي ، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية .
ثم عزاهم فقال : { ولقد فتنا الذين من قبلهم } يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ ، ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون ، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب .
قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } العامة على فتح الياء مضارع «عِلَم » المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف ، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى ، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط ، دون ما عليه من الأحوال{[41032]} .
وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد{[41033]} بضم الياء{[41034]} مضارع «أعلم » ، ( ويحتمل{[41035]} أن يكون من علم بمعنى عرف{[41036]} ، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها مفعولاً آخر ، فحذف .
ثم هذا المفعول ) يحتمل أن يكون هو الأول ، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة{[41037]} يعرف لها هؤلاء من هؤلاء ، وأن يكون الثاني ، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم ، وهؤلاء منازلهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون من العلامة ، وهي السِّيمَا ، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها{[41038]} .
وقرأ الزُّهْرِيُّ{[41039]} الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة{[41040]} .
المعنى : فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم : آمَنَّا ، وليعلمن الكاذبين .
قال المفسرون : ظاهر الآية يدل على تجدد العلم ، والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار . ومعنى الآية : فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه .
وقال مقاتل : فليُرِيَنَّ الله . وقيل : ليميز الله ، كقوله : { ليَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } .
وقال ابن الخطيب : الآية محمولة على ظاهرها ، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع ، والآخر عصى ، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم .
ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع ، وقوبل بوجهها جهة ( ولم تحرك ) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها «عمرو » في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك . فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت ، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت ؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات .
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغيير ، وعلم الله غير ممكن التغيير ، فقوله : «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ » من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم .
وليعلمن الكاذبين ، يعني من قال : أنا مؤمن ، وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم .
وفي قوله : «الَّذِينَ صَدَقُوا » بصيغة الفعل ، وفي قوله : «الكَاذِبِينَ » فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه ، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه ، كما يقال : فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ ، وفلان نفذ أَمْرُهُ ، وفلان نافذ أمره ، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول : وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف ، وعن قوم قديمين في الكفر ، مستمرين فيه . فقال في حق المؤمنين : «الذين صدقوا » بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا : «الكاذبين » بالصيغة المفهمة للثبات والدوام ، فلهذا قال : { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل ، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر{[41041]} .