ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة ، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة : عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين ، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين ، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم ، وتفرقهم شيعا وفرقا ، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة .
( لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ، ثم لا ينصرون ، ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة ، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء ، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين :
( لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) . .
فلن يكون ضررا عميقا ولا أصيلا يتناول أصل الدعوة ، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة ، ولن يجليها من الأرض . . إنما هو الأذى العارض في الصدام ، والألم الذاهب مع الأيام . . فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال ، فالهزيمة مكتوبة عليهم - في النهاية - والنصر ليس لهم على المؤمنين ، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين . .
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين ، فقال : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع ، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم{[5563]} وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة{[5564]} كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ]{[5565]} وهم كذلك ، ويحكم ، عليه السلام{[5566]} بشرع محمد{[5567]} عليه أفضل الصلاة والسلام{[5568]} فيَكْسر الصَّلِيب ، ويقتل الخنزير ، ويَضَع الجزْية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
{ لَن يَضُرّوكُمْ إِلاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدُبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : لن يضركم يا أهل الإيمان بالله ورسوله ، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم ، وتكذيبهم نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أذى ، يعني بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم ، وإسماعكم كفرهم ، وقولهم في عيسى وأمه وعزير ، ودعائهم إياكم إلى الضلالة ، ولا يضرّونكم بذلك ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، الذي هو مخالف معنى ما قبله ، كما قيل ما اشتكى شيئا إلا خيرا ، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكمْ إلاّ أذًى } يقول : لن يضرّوكم إلا أذى تسمعونه منهم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } قال : أذى تسمعونه منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } قال : إشراكهم في عُزَير وعيسى والصليب .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى } . . . الاَية ، قال : تسمعون منهم كذبا على الله ، يدعونكم إلى الضلالة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن يقاتلكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يهزموا عنكم ، فيولوكم أدبارهم انهزاما ، فقوله : { يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ } كناية عن انهزامهم ، لأن المنهزم يحوّل ظهره إلى جهة الطالب هربا إلى ملجأ ، وموئل يئل إليه منه ، خوفا على نفسه ، والطالب في أثره ، فدبر المطلوب حينئذٍ يكون محاذي وجه الطالب الهازمة . { ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } يعني : ثم لا ينصرهم الله أيها المؤمنون عليكم لكفرهم بالله ورسوله ، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله عزّ وجلّ قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم أيها المؤمنون بنصركم . وهذا وعد من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان نصرهم على الكفرة من أهل الكتاب . وإنما رفع قوله : { ثُمّ لا يُنْصَرُونَ } وقد جزم قوله : { يُوَلّوكم الأدْبارَ } على جواب الجزاء ائتنافا للكلام ، لأن رءوس الاَيات قبلها بالنون ، فألحق هذه بها ، قال : { وَلا يُؤذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } رفعا ، وقد قال في موضع آخر : { لا يُقْضَى علَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } إذ لم يكن رأس آية .
{ لن يضروكم إلا أذى } ضررا يسيرا كطعن وتهديد . { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر . { ثم لا ينصرون } ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم ، نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم ، ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخذلان . وقرئ " لا ينصروا " عطفا على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيدا بقتالهم ، وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } معناه : لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال ، وإنما هو أذى بالألسنة ، فالاستثناء متصل ، وقال الحسن ، وقتادة وغيرهما : «الأذى » هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه .
قال القاضي أبو محمد : وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً ، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء ، وضرب الجزية ، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه ، وهكذا هي فصاحة العرب ، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال{[3424]} : يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت ، فقوله : ذا دم ، روي بالذال منقوطة ، وبالدال غير منقوطة ، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام ، وأما الدال غير المنقوطة ، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه ، وذلك بأحد وجهين : إما أن يريد الوعيد ، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك ، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه ، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك ، فهذا استعطاف لا وعيد ، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي ، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى ، ويحتمل كلام ثمامة ، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم ، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود : وهل أعمد{[3425]} من رجل قتلتموه ؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز ، حين قال له : لأقتلنك ، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر{[3426]} شيئاً فكأن ثمامة أراد : إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه ، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيهاً لهم ، وأخبر الله تعالى في قوله : { وإن يقاتلوكم } الآية ، بخبر غيب صححه الوجود ، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم ، وفائدة الخبر هي في قوله : { ثم لا ينصرون } أي لا تكون حربهم معكم سجالاً{[3427]} وخص { الأدبار } بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ ، وهكذا هو حيث تصرف .
قوله : { ضربت } معناه : أثبتت بشدة والتزام مؤكد ، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام ، قال الحسن : جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم{[3428]} الجزية ، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام ، ولم تبق لهم راية أصلاً في الأرض ، و { الذلة } فعلة من الذل { ثقفوا } معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك ، ومنه قوله تعالى : { فإما تثقفنهم في الحرب }{[3429]} { فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم }{[3430]} واللفظة مأخوذة من الثقاف ، ومنه قول الشاعر :
تدعو ثقيفاً وَقَدْ عَضَّ الحديدُ بها . . . عضَّ الثّقافِ على صُمّ الأنابيبِ{[3431]}
وقوله تعالى : { إلا بحبل } استثناء منقطع ، وهو نظير قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً }{[3432]} لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئاً ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما الكلام محذوف ، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت { إلا بحبل } .