القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينٍَ } :
يقول تعالى ذكره : قالَ الله لإبليس ، إذ لم يسجد لاَدم ، وخالف أمره : يا إبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ يقول : أيّ شيء منعك من السجود لِما خَلَقْتُ بِيَدَيّ يقول : لخلق يديّ يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه ، كما :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عبيد المكتب ، قال : سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر ، قال : خلق الله أربعة بيده : العرش ، وعَدْن ، والقلم ، وآدم ، ثم قال لكلّ شي كن فكان .
وقوله : ( أسْتَكْبَرْتَ ) : يقول لإبليس : تعظّمت عن السجود لاَدم ، فتركَت السجود له استكبارا عليه ، ولم تكن من المتكبرين العالين قبل ذلك أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ يقول : أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكّبر على ربك قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ يقول جلّ ثناؤه : قال إبليس لربه : فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيرا لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين ، والنار تأكل الطين وتُحرقه ، فالنار خير منه ، يقول : لم أفعل ذلك استكبارا عليك ، ولا لأني كنت من العالين ، ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأبَوا الانقياد له ، واتباع ما جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا : أأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِنْ بَيْنِنا وهَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ عليهم تعالى ذكره قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لاَدم بدعواه أنه خير منه ، من أجل أنه خلق من نار ، وخلق آدم من طين ، حتى صار شيطانا رجيما ، وحقت عليه من الله لعنته ، محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد ، وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا ، وتعظما من اللعن والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لاَدم .
{ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } : خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم ، والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل ، وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم ، أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعا إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص . { أستكبرت أم كنت من العالين } تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق ، وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين ، وقرئ { استكبرت } بحذف الهمزة لدلالة { أم } عليها أو بمعنى الإخبار .
القائل لإبليس هو الله عز وجل ، وقوله { ما منعك } تقرير وتوبيخ .
وقرأ عاصم والجحدري : «لَمَّا خلقت » بفتح اللام من : «لَمَّا » وشد الميم . وقرأ جمهور الناس «بيديْ » بالتثنية . وقرأ فرقة : «بيديَّ » بفتح الياء ، وقد جاء في كتاب الله : { مما عملت أيدينا } [ يس : 71 ] بالجمع .
وهذه كلها عبارة عن القدرة والقوة ، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريباً على السامعين ، إذا المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد ، وقد كانت جهالة العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة ، ونحو هذا من المعاني المعقولة ، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد والعين والوجه صفات ذات زائدة على القدرة والعلم غير ذلك من متقرر صفاته تعالى ، وذلك قول مرغوب عنه ويسميها الصفات الخبرية . وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء بيده وهي : العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله : «كن » . قال القاضي أبو محمد : وهذا إن صح فإنما ذكر على جهة التشريف للأربعة والتنبيه منها ، وإلا فإذا حقق النظر فكل مخلوق فهوة بالقدرة التي بها يقع الإيجاد بعد العدم .
وقرأت فرقة : «استكبرت » بصلة الألف على الخبر عن إبليس ، وتكون { أم } بينة الانقطاع لا معادلة لها . وقرأت فرقة : «أستكبرت » بقطع الألف على الاستفهام ، ف { أم } على هذا معادلة للألف ، وذهب كثير من النحويين إلى أن «أم » لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا أدخلتا على فعل واحد ، كقولك : أزيد قام أم عمرو ؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو ؟ قالوا : وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست أم معادلة ، ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن أن كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك ، وهذا على جهة التوبيخ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.