تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} (75)

قوله تعالى : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى الله عز وجل يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد كقوله { رب هذا البيت } [ قريش : 3 ] وقوله : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] . وقوله : { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] وقوله : { ألا إن أولياء الله } [ يونس : 62 ] وأشباه ذلك . وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه ، وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له ، على التعظيم لتلك الأشياء .

فعلى ذلك تخرج إضافة خلق آدم حين قال : { خلقت بيدي } وإن كان جميع الخلائق ، هو خلقهم ، وتخرج كلية الأشياء إلى الله وكلية الخلائق مخرج تعظيم الرب والمدح له نحو قوله عز وجل : { قل الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] [ وقوله : { إن الله هو الرزاق } [ الذاريات : 58 ]يخلق منشأ العالم ومبدأه كقوله : { وهو على كل شيء قدير } [ المائدة : 120 ] وقوله : { قل اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26 ] وغير ذلك على ما ذكرنا في ما تقدم ، والله أعلم .

ثم قوله عز وجل : { بيدي } قد تكلف أهل الكلام والتأويل إضافة اليد إلى الله عز وجل منهم من قال هي القوة ، ومنهم من قال : كذا . لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد تضاف اليد إلى من لا يد له ولا جارحة ، ولا عضو نحو ما قال عز وجل : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] لم يفهم أحد بذكر اليد له والخلف ما يفهم من الخلق ، وكذلك لم يفهم ما ذكر من مجيء الحق ولا زهوق الباطل ما يفهم من مجيء الخلق وذهابهم كقوله : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ الإسراء : 81 ] وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حين قال عز وجل : { يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] وقال : { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } [ النساء : 174 ] وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه .

لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق ، ولا فهم من ذكر اليد ما ذكرنا من الأشياء جارحة ولا عضوا . فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق ، لولا فساد اعتقادهم لربهم ، والجهل بتعاليه عن معنى الغير ؟ وإلا لم يخطر بباله بذكر لله وإضافته إليه ما يخطر ببالهم من الخلق ومعنى الخلق .

ويحتمل أن يكون ذلك ذكر لنفسه وأضافه إليه من اليد وما ذكر لما باليد يكون العمل في المشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق نحو ما قال { ذلك بما قدمت أيديكم } [ آل عمران : 182 ] وقال : { ذلك بما قدمت يداك } [ الحج : 10 ] ونحوه مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن بكسب اليد حقيقة ولا عمله من نحو الكفر ونحو ذلك من الأشياء .

لكنه ذكر اليد لما باليد يكتسب في الشاهد ، وبها تعمل أكثر الأعمال والأفعال . وأضاف ذلك إليها لما ذكرنا ، وإن لم يكن منها عمل حقيقة .

فعلى ذلك إضافة اليد إلى الله في ما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد . وعلى ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق .

وأصل ذلك أنما عرفنا الله عز وجل متعاليا عن جميع معاني الغير عم كل صفات يوصف بها الغير على ما ذكر في كتابه : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد به ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { استكبرت أم كنت من العالين } معناه ، والله أعلم ، استكبرت للحال عندما أبيت السجود له أم كنت في اعتقادك من العالين ؟ أي المستكبرين .

ويحتمل قوله عز وجل : { أم كنت من العالين } أم صرت من العالين أي استكبرت ، وصرت من العالين على ما في قوله عز وجل : { وكان من الكافرين } [ الآية : 74 ] أي صار من الكافرين .

ثم حرف الشك والاستفهام من الله قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع ؛ كأنه قال : بلى كنت في علم الله أنك تكفر ، أو يقول : وصرت من العالين أي ممن يطلب العلو كقوله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] .