فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} (75)

ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فقال : { يَا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي ما صرفك ، وصدّك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة ؟ وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له وتشريفاً ، مع أنه سبحانه خالق كل شيء كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد .

قال مجاهد : اليد هنا بمعنى : التأكيد ، والصلة مجازاً كقوله : { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } [ الرحمن : 27 ] . وقيل : أراد باليد القدرة ، يقال : ما لي بهذا الأمر يد ، وما لي به يدان أي : قدرة ، ومنه قول الشاعر :

تحملت من عفراء ما ليس لي يد *** ولا للجبال الراسيات يدان

وقيل : التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى : القوّة والقدرة ، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه ، و " ما " في قوله : { لِمَا خَلَقْتُ } هي المصدرية أو الموصولة . وقرأ الجحدري : " لما " بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى : حين كما قال أبو عليّ الفارسي . وقرئ : " بيدي " على الإفراد { أَسْتَكْبَرْتَ } قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ ، وتقريع و{ أَمْ } متصلة . وقرأ ابن كثير في رواية عنه ، وأهل مكة بألف وصل ، ويجوز أن يكون الاستفهام مراداً ، فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :

* تروح من الحيّ أم تبتكر *

وقول الآخر :

* بسبع رمين الجمر أم بثمانيا *

ويحتمل أن يكون خبراً محضاً من غير إرادة للاستفهام ، فتكون «أم » منقطعة ، والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أكُنتَ مِنَ العالين ، أي : المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك ، وقيل : المعنى : استكبرت عن السجود الآن ، أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك ؟

/خ88