روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} (75)

{ قَالَ } عز وجل على سبيل الإنكار والتوبيخ { قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } أي من السجود { لِمَا خَلَقْتُ } أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف ، واستدل به على جواز إطلاق { مَا } على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال : إن { مَا } مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق { بِيَدَىَّ } وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتني بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين ، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسماً صغيراً انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلاً لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره إلى غير ذلك من مزايا الآدمية . وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] فأريد به لازمه وهو التأكيد وذلك لأن لله تعالى في خلقه أفعالاً مختلفة من جعله طيناً مخمراً ثم جسماً ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر ، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين . وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مرو إما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة .

والسلف يقولون : اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة ، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره ، فقد ثبت في «الصحيح » أنه سبحانه قال في جواب الملائكة : اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان .

وأخرج ابن جرير . وأبو الشيخ في العظمة . والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : خلق الله تعالى أربعاً بيده . العرش . وجنات عدن . والقلم . وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان ، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده ، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى : أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده ، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له : أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده ، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل : ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده .

وزعم الزمخشري أن { خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث أن إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيماً لأمر ربهم وإجلالاً لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقاً امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو ، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية ، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلاً ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز ، وأيضاً الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه ، وأيضاً جعل سجود الملائكة لآدم راجعاً إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل { أَتَجْعَلُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذراً من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذٍ لا تدل على الأفضلية مطلقاً حتى يلزم خرم مذهبه ، ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالاً لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالاً لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعامع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام ، وقرئ { بِيَدَىَّ } بكسر الدال كمصرخي و { بِيَدَىَّ } على التوحيد { أَسْتَكْبَرْتَ } بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق { أَمْ كُنتَ مِنَ العالمين } أو كنت مستحقاً للعلو فائقاً فيه ، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول : باعتبار الاستحقاق وعدمه وعلى الثاني : باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل { كُنتَ مِنَ العالين } دون أنت من العالين ، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم ولم يؤمروا بالسجود وإنما المؤمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكباراً أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه ، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيداً أم قتلته .

وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه . وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل { أَسْتَكْبَرْتَ } بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله

: بسبع رمينا الجمر أم بثمان *** واحتمل أن يكون الكلام إخباراً وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به .

هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات : وقوله تعالى : { قَالَ يا إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر ، واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما ، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام . وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال : الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة ؟ ثم قال : والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك هو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع .

أرواح تدبر أجساداً نورية وهم الملأ الأعلى . وأرواح تدبر أجساداً نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجساداً ترابية وهم البشر ، فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقاً قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر ، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل ، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى ، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام . ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم .