الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ} (75)

قوله : { أَن تَسْجُدَ } : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ " لا " في { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] في السورةِ الأخرى زائدةٌ ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ . وقوله : " لما خَلَقْتُ " قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع " ما " على العاقل ؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ . وقيل : لا دليلَ فيه ؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال . وقيل : " ما " مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي : لمخلوقي .

وقرأ الجحدري " لَمَّا " بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ ، وهي " لَمَّا " الظرفيةُ عند الفارِسيِّ ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه . والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي : ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي : حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له . وقُرِئ " بيَدَيِّ " بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ " بِمُصْرِخِيِّ " وقد تقدَّم ما فيها . وقُرِئ " بيدي " بالإِفرادِ .

قوله : " أسْتَكْبَرْت " قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ . و " أم " متصلةٌ هنا . هذا قولُ جمهورِ النحويين . ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن ، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك : أقامَ زيدٌ أم عمروٌ ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً . وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه : " وتقول : " أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه ؟ " فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان ؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت : أيُّ ذلك كان " انتهى . فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين .

وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير ، وليسَتْ مشهورةً عنه - " استكبَرْتَ " بألف الوصلِ ، فاحتملَتْ وجهين ، أحدهما : أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه " أم " كقولِه :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ

وقول الآخر :

ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فتتفق القراءتان في المعنى ، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها .